لعل مفهوم خدمة الوطن مجانا يعد من المفاهيم الغريبة على عدد غير قليل من الناس، وربما ان ذلك سببه عدم وجود نماذج واضحة يحتذى بها. ففي البحرين تعود الناس على أن من يعمل مجانا من أجل الوطن هم الفئات الفقيرة أو لقريبة منها، ولكن الفئات المتمكنة والمتنفذة عادة ما تأكل جزءا كبيرا من الكعكة قبل أن تبذل أي جهد لخدمة البلاد، وفي كثير من الأحيان فإن الجهد يبذل من أجل الحصول على دعاية إعلامية أكثر منه حقيقة واقعة يستفيد منه الناس. ولكي لا نظلم أهل الخير الذين يعملون الكثير من أجل الآخرين، فإن المقصود هو انعدام ظاهرة خدمة الوطن مجانا من قبل الفئات المتمكنة والمتنفذة بصورة عامة، على رغم وجود بعض الحالات الخاصة.
مناسبة الحديث هي ما يدور حاليا من نقاشات في أوساط "المجلس الوطني للتنافسية" الذي عقد ورشة عمل ناجحة الأسبوع الماضي شارك فيها خبراء متطوعون من المنتدى الاقتصادي العالمي "منتدى دافوس" في سويسرا، وآخرون من المجلس الوطني للتنافسية في مصر، حضروا جميعهم من دون مقابل مادي لمساعدة البحرينيين والخليجيين على البدء في نشاطات تدعم الإصلاح الاقتصادي من خلال المنهجية التي يتبعها منتدى دافوس لدعم التوجهات العالمية والإقليمية والمحلية للتحول إلى اقتصاد السوق. ولقد اثبتت ورشة العمل أن العمل التطوعي - من دون مقابل مادي - يؤتي ثماره لأنه يخرج من القلب ولأجل هدف اسمى. فالسويسريون والمصريون الذين قدموا إلى البحرين وقدموا أفضل الخبرات للمشاركين عملوا ذلك على أساس طوعي، والمصريون الذين نشطوا في مجلسهم الوطني للتنافسية أيضا ينشطون على أساس طوعي.
أما ما لدينا من نماذج في البحرين فكثير منها يبعث على الاحباط. فمن شخص اعتاد أن يضمن النسبة المئوية من كل مشروع مهم في البلاد، و إلى شخص اعتاد أن يضع يده على أية قطعة من الأرض ويحرم البلاد والعباد منها، وشخص اعتاد أن يحصل على مقابل مادي عن كل نشاط يقوم به هنا أو هناك. وحتى عن ذلك الجمعيات الأهلية، فقد امتهن بعضهم مهنة لا تختلف كثيرا. فبعضهم يعلن أنه تسلم مساعدات من هذا المصدر أو ذاك من أجل إقامة نشاط معين "وهو عمل مشرف"، أما الآخرون فتراهم في كل واد يهيمون، ولأي نشاط يهرعون من أجل الفوز ببعض المردودات المادية. وهذا يعني أن الغاية الإنسانية قد تختفي إذا ازدحمت مع الغاية المادية، ويصبح العمل الوطني حينها وسيلة للاستفادة الأنانية حتى لو كان ذلك على حساب الوطن والمواطنين.
في الثمانينات من القرن الماضي كان رئيس واحدة من أكبر الشركات البريطانية آنذاك "آي سي آي" جون هارفي - جونز معروفا بكفاءته الإدارية وقدراته الاستراتيجية. وعندما تقاعد قام في مطلع التسعينات ولسنوات كثيرة ببرنامج تطوعي "شبه مجاني" تمثل في جولة في المصانع والشركات البريطانية الصغيرة والمتوسطة التي كانت تعاني لأي سبب من الأسباب. وكان يقدم استشاراته الإدارية مجانا مقابل أن يتم بث حلقة تلفزيونية عن الشركة لكي يتعلم الآخرون من التجربة ويستفيدوا من الحلول وكيفية تحويل الخسائر إلى أرباح وكيفية الخروج من ازمات تهدد تلك الشركات. وأصبح ذلك الرجل بطلا وطنيا لأنه خدم بلده مجانا في مجال من المجالات الاستراتيجية... وآن لنا أن نتعلم من الآخرين ونبدأ العمل من أجل وطننا... مجانا
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1026 - الإثنين 27 يونيو 2005م الموافق 20 جمادى الأولى 1426هـ