دعت قمة الجنوب التي عقدت في الدوحة الأسبوع الماضي الى تفعيل الحكم الرشيد في هذه المنطقة الملتهبة من العالم. والبحرين شاركت بفاعلية غير معهودة في جلسات هذه القمة، إذ رأس الوفد البحريني فيها جلالة الملك، وهو أمر لم تحظ به حتى القمة العربية. وكثيرا ما ردد الزعماء المجتمعون في الدوحة "شرقيون وغربيون" أن البحرين بوسعها أن تشكل أنموذجا يحتذى به في الإصلاح في المنطقة، أو بصيغة أخرى أنموذجا مصغرا لـ "الشرق أوسطية الكبيرة" التي يراد لها أن تمتد من كابول حتى نواكشوط!
ويتفق الكثير من المراقبين محليا على أن البحرين بامكانها فعلا أن تكون أنموذجا حيا وحقيقيا للوحدة الوطنية والإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتكريس الحكم الراشد ليس لمنطقة الخليج فحسب، بل لكثير من بلدان العرب من الخليج الى المحيط.
ولعل من حسن الطالع أن "الحكم الراشد" سيكون العنوان الأبرز - بلاشك - على مائدة المسئولين عن صناعة القرار في منطقتنا الذين سيلتقون في المنامة في رحاب "منتدى المستقبل" الذي تحتضنه المملكة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وليس ثمة شك في أن وجود عشرات الساسة وصناع القرار "الكبار" في المنامة سيشكل فرصة نادرة للحديث عن آليات إصلاح منطقية وتوافقية وصيغ مقبولة في الركب الإصلاحي. وربما يقول قائل إن "الحكم الراشد" هو آخر ابتكارات الامبريالية العالمية، وهذا الأمر صحيح نسبيا ولا يمكن إنكاره أو تجاهله كليا. فالكثيرون هنا لا يرون أن هذا المشروع مورد ثقة بالمقدار الذي يريد مبتكروه منا أن نصدقه. لكن ذلك لا يعني وجود ثمة قواسم ومصالح مشتركة كثيرة تلتقي في ضرورة "دمقرطة الدكتاتوريات" وما أكثرها في عالمنا العربي الكبير.
وعلى مسار مواز على الصعيد المحلي آن الأوان لأن نعلن صراحة أن مشروعنا السياسي بحاجة ماسة وأكثر من أي وقت مضى الى هزة حقيقية أخرى سلمية، نحن الآن بحاجة الى انقلاب على تركات الماضي الثقيلة، الكثير من العوالق ستجد طريقها الى الحل في حال توافرت الإرادة السياسية الجدية من الحكم ومؤسسات المجتمع المدني والرموز الاجتماعية والدينية التي تملك التأثير بقوة في اتجاهات الشارع البحريني.
صحيح أن لدينا مجلسا تشريعيا، لكنه مازال مجلسا أجوف ومن دون مخالف وأدوات تشريعية حقيقية، وصحيح أيضا أن لدينا إصلاحا اقتصاديا، لكن نجاح هذا الإصلاح من عدمه مرتبط أساسا بالجدية في إزالة المعوقات الحقيقية التي تعوق حركة الاستثمار في بلادنا، بدليل أن مشروعات بحرينية مبدعة بدأت تتجه نحو الخارج، وخصوصا إلى الدول المجاورة التي لديها قاعدة متينة وخصبة وخيارات متنوعة تشجع على حركة الاستثمار بعكس بلادنا الذي يبدو أن عجلة الإصلاح الاقتصادي فيها مازالت متلكئة.
ربما بإمكاننا أن أن نتفاخر أمام أشقائنا بوجود مؤسسات مجتمع مدني حية وتنظيمات سياسية مختلفة، إلا أن الحكم الراشد يتطلب وجود نظام يكرس الفصل بين السلطات فصلا حقيقيا لا شكليا. والآن وقبل اشهر فقط بدأت بوادر تحسن في هذا الاتجاه، منها منح صلاحيات واسعة لها قوتها الإلزامية لمجلس التنمية الاقتصادية الذي يدار من قبل كوادر بحرينية شابة. إلا أن ابن الشارع البسيط الذي يقضي في عمله ثماني ساعات في قبال أجر زهيد لا يعير لهذه الخطوات أهمية كبرى، لان الإصلاح الاقتصادي في عيون المواطن العادي يعني في نهاية المطاف زيادة راتبه الشهري وتحسين وضعه المعيشي. فالحكم الراشد يتطلب أرضية اقتصادية مهيأة قوامها التوزيع العادل للثروة.
نحن اليوم مقبلون على العام 2006 وهو عام يحوز أهمية خاصة في المشروع السياسي البحريني، فالانتخابات البلدية على الأبواب، ومثلها البرلمانية، فالمواطن البحريني سيواجه استحقاقات مهمة في هذا العام: أولها الذهاب الى صناديق الاقتراع لاختيار ممثلين في المجالس البلدية الخمسة، ومن ثم اختيار 40 ممثلا في المجلس النيابي، وهذاين الاستحقاقان يتطلبان أيضا سلطة تنفيذية أكثر تعاونا وانسجاما وتناغما مع غريمتها في البيت التشريعي.
مرة أخرى هل بإمكاننا أن نقدم أنموذجا جميلا لإصلاح يحتذى به في المنطقة؟ "..." الجواب بالتأكيد سيكون نعم من كل الأطراف، لكن "نعم" تلك بشرطها وشروطها واستحقاقاتها الصعبة أيضا، علينا أن نتجاسر قليلا ونقول إننا اليوم على اعتاب الديمقراطية وليس في مصاف الديمقراطيات العريقة في العالم كما أشارت إليها ديباجة الميثاق الوطني ومبادئ الدستور البحريني.
البحرين نجحت في التوقيع والتصديق على عشرات الاتفاقات الدولية في مجالات حقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل، وها نحن مستعدون أيضا لتوقيع العهدين الدوليين بل ولا نعارض توقيع ملحقيهما، ومستعدون لتوقيع اتفاقات أخرى أيضا. ماذا يعني ذلك؟من البديهي القول إن هذا الأمر يعد منذ الوهلة الأولى انتصارا للعهد الإصلاحي الجديد في البحرين، لكن ذلك الانتصار الذي أعاد إلى البحرين مكانتها الفاعلة في المحافل الحقوقية والسياسية الدولية هو انتصار بحاجة الى تفعيل على أرض الواقع، وهذا الانتصار في الجولة الأولى يتطلب حربا في الجولة الثانية من أجل ضمان تطبيق هذه المعاهدات والاتفاقات التي تسمو في غالبها على القانون المحلي.
وعودا على بدء لا يمكن تغافل حقيقة يحاول البعض التعتيم عليها، وهي أن من مبادئ الحكم الراشد وأركانه الرئيسية وجود مرجعية قانونية "دستورية" متوافق عليها، وتكتسب شرعيتها من الشعب نفسه الذي يجب أن يحكم عليها في استفتاء حر ومباشر، وهذا الأمر يشكل أحد المفاصل الاستحقاقية التي تنتظرنا حكومة وشعبا ومؤسسات.
البحرينيون ومعهم المؤسسات الحقوقية ينتظرون اليوم وعلى أحر من الجمر الساعة التي تفعل فيها تلك الاتفاقات، لكيلا تبقى حبرا على ورق، بل ولربما جف حبرها وحرق ورقها في الكثير من الدول. على رغم إمضائنا الكبير للكثير من الاتفاقات فانها لم تتحول الى صيغ قانونية ونصوص دستورية بعد. وتنفيذ هذه الاتفاقات يفترض وجود هامش اكبر من الصدقية والشفافية، الصدق مع أنفسنا والصدق مع الآخرين.
الحكم الراشد بحاجة أيضا الى مكنة إعلامية راشدة، تبين الخلل وتكشف المعوج، وتكون خير سند نحو التغيير الحقيقي القائم على إفرازات تفاعلية بين أطراف المجتمع لتحقيق الشراكة الاجتماعية التي تميز كل أنظمة الحكم الراشد أينما وجدت.
الحكم الراشد إذا لم يعد اسما أجوف، بل أصبح ضرورة وطنية حقيقية تفرضها المصلحة البحرينية أولا، والمتغيرات المتسارعة في محيطنا التي تنبئنا بالزلازل والهزات والبراكين ثانيا، ونحن قادرون - إذا ما أردنا - على أن نخلق بحرينا حرة ذات نظام دستوري عادل يصلح لأن يعطي التجارب الحية للآخرين. تجربتنا الإصلاحية الوليدة والواعدة بحاجة الى أن تنمو بوتيرة متسارعة، على أن تزرع بذرة الإصلاح من داخل البحار لا من وراء البح
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 1025 - الأحد 26 يونيو 2005م الموافق 19 جمادى الأولى 1426هـ