يحتفل العالم اليوم، السادس والعشرين من يونيو/ حزيران، بيوم التضامن مع ضحايا التعذيب، بينما سبقت البحرين بقية دول العالم بالاحتفال مبكرا بهذه المناسبة.
أولى الفعاليات هي المرسم الحر الذي بدأ يوم الأربعاء وانهتي الجمعة، باجتماع عشرات الفنانين، من مختلف جزر البحرين المأهولة، حملوا ريشاتهم ليعبروا عن تضامنهم مع ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في حقبة "أمن الدولة"، يوم كانت السيادة لـ "سياسة القبضة الحديدية"، وقمع المعارضين وتشريدهم في قارات الدنيا الخمس. هذه الحقبة المظلمة أطل علينا بيان متشنج لأحد النواب ليذكرنا بأنيابها ومخالبها قبل أيام، وليبعث من جديد في الذاكرة الشعبية كل صور القمع والتنكيل التي امتدت 30 عاما.
في عصر الجمعة أيضا، شهد مبنى الأمم المتحدة اعتصاما شعبيا أشعلت فيه الشموع، وشاركت فيه 12 جمعية سياسية وحقوقية ومدنية، من مختلف المشارب والاتجاهات، تمثل شعب البحرين خير تمثيل. كل الطيف البحريني كان حاضرا: الإسلامي واليساري والقومي والوطني، في أبلغ رد على دعاة الطائفية وغلاة الفكر الانعزالي الصحراوي الذي ترفضه تربة هذا الوطن، ممن يرى نفسه ناطقا وحيدا باسم الأمة جمعاء... "من المغرب الكبير إلى الجزيرة العربية".
ولأول مرة غابت عن السماء طائرة الهليوكبتر التي اعتاد الناس على ظهورها في كل مسيرة واعتصام في الشهور الأخيرة، وهو تقدم "كبير" في التعاطي مع الحدث بعيدا عن عقلية "أمن الدولة" التي لا ترى في المواطنين الذين يعبرون عن أنفسهم بأرقى صورة حضارية... إلا أسرابا من النمل الأسود، ولا ترى فيهم بشرا لهم حقوق ومطالب سياسية واقتصادية ومعيشية طال تجاهلها ثلاثة عقود حتى تراكمت كالتلال.
وإذا كانت الهليوكبتر غابت عن المشهد، فإن العقلية "الأمنية" القديمة أرادت إثبات وجودها في صبيحة اليوم التالي، فهناك من لايزال ينظر إلى الفعاليات السلمية على طريقة المتلصصين: اعتصام جدار المالكية السلمي الذي أعاد هيبة القانون، اختزلوه في "مطرقة"! ولا يرون في "الاعتصام الحقوقي" إلا "اعتداء على سيارة أمن"... "وهو أمر لم يثبت بالمناسبة!" ثم يقيمون مأتما على المهنية والموضوعية وفنون الإعلام! وليس غريبا كل هذا الهياج... فالمرأة التي تكثر الحديث عن الطهر هي التي تبيع جسدها في الشوارع الخلفية كما يقول الإنجليز!
العيون "المتلصصة" كعادتها لم تحاول التعرف على الحضور، فهم مجرد نمل أسود يدب على الأرض، إذا كانوا عشرة آلاف فسيقولون انهم أربعة، وإذا كانوا مئات فسيقولون انهم عشرات، وإذا كانوا خمسين فسيقولون انهم خمسة فقط!
هناك طفت على الحضور مرتين، لأتعرف على وجوههم وأعمارهم، بعضهم جاوز السبعين، وثلثهم هو في العقد الخامس والرابع من عمره، والكثرة من جيل الثلاثين. هذا الجيل الشاب الذي أغمض عيونه على حوادث التسعينات، وفتحها على عهد الإصلاح، فلم ير شيئا يقطفه غير اليأس والاحباط.
قراءة الأعمار شيء لا يدركه الرقباء والعسس وحملة أقلام الفتنة. وللأمانة، اجتمعت أمام مبنى الأمم المتحدة يوم الجمعة أجيال متعاقبة من السجناء والمعتقلين وضحايا "أمن الدولة". ثلاثة أجيال دفعت ضريبة حرية الوطن وكرامة المواطن شقاء وعذابا وغربة وسجنا وتشريدا، ومع ذلك مازال بعض العسس يبشروننا بعودته، ولا يفتأون يدعون إلى "الضرب بيد من حديد"، كأنهم لم يفهموا الدرس ولم يستوعبوا التاريخ... يرغون كالجمل الطائش في ساحة حرب ضروس. أين هؤلاء من الحكمة والرشد والعقل الرزين. أين هم من التجارب وقراءة التاريخ والاستعبار. صحيح، قل الراشدون.
أحد الخاملين لا يفتي في الشهر إلا مرتين، مثل بيضة الديك الأرعن، فلا تخرج البيضة "الوعظية" إلا بعد مخاض عسير. تطلع حضرته أخيرا إلى أحوال البحرين ونزل لعنا وتسفيها للشعب "الذي لم يكن مؤهلا للديمقراطية"، وبالتالي عليكم أن تعيدوا إليه القيود والجلاوزة وشي أجساد الناشطين بالمكواة ونزع أظافرهم وتعليقهم في مراوح السقف... ألا ساء ما يزرون.
وفيما أوقد البحرينيون الشموع أمام مبنى الأمم المتحدة احتفالا بيوم التضامن مع ضحايا التعذيب، وفيما يعلن الأمين العام للمنظمة كوفي عنان ان منع التعذيب والقضاء عليه هدف حيوي... إيمانا بحقوق الإنسان الأساسية وكرامة الجنس البشري، نرى طبقة العبيد تدعو من دون خجل إلى عودة الأغلال والإذلال وقهر المواطن من جديد. ليتهم يستيقظون، فحتى الهليكوبتر استحت وآثرت التواري عن الأنظار والاختفاء من السماء... إلا هؤلاء المنومين. ألم يقولوا "إن الصفاقة أعيت من يداويها"؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1024 - السبت 25 يونيو 2005م الموافق 18 جمادى الأولى 1426هـ