أكد السيدمحمد حسين فضل الله، ضرورة إصلاح الذهنية واعتماد الإصلاح كبرنامج لإنتاج المصلحين كي نستطيع الوصول للإصلاح الحقيقي وتغيير الواقع الفاسد. وأشار إلى أن المشكلة في واقعنا لا تكمن في وجود قيادات فاسدة فحسب، بل في كون هذه القيادات استطاعت إفساد الواقع والذهنية، مشددا على التلازم بين إصلاح الذات وإصلاح المجتمع، وأن الشخص الفاسد في موقعه السياسي والاجتماعي لا يستطيع أن يمنح الدولة طهرا ونقاء وإصلاحا، محذرا من المساومة في الالتزامات الاستراتيجية والمصيرية في المسألة الإصلاحية.
جاء ذلك، في سياق رده على سؤال في ندوته الأسبوعية بشأن الإصلاح في المفهوم الإسلامي وموقفه من دعوات الإصلاح المتتالية في لبنان، إذ قال: "مثل عنوان الإصلاح في الرسالات التي أرسل الأنبياء من أجلها هدفا أساسيا في حركة النبوة، بحيث ظل هذا الهدف نصب أعين الأنبياء، وقد حدثنا الله في القرآن الكريم على لسان أحد أنبيائه، أنه خاطب قومه قائلا: "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت" "هود: 88". وامتد هذا العنوان إلى حركة المصلحين والأولياء في الأمة، إذ جعله الإمام الحسين عنوانا شرعيا أساسيا لنهضته وثورته، إذ قال: "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
ونحن نفهم من هذا أن على الفقهاء أن يولوا عنوان الإصلاح ومشروعاته الاهتمام الأكبر، لأنهم ورثة الأنبياء والأوصياء بما يحملونه من إرث علمي وفقهي، وبما يمثلونه من امتداد طبيعي لحركة الرسالات في وعيهم وثقافتهم وإمكاناتهم العلمية والفكرية، وما إلى ذلك. ونحن في الوقت الذي نعرف أن العمل للإصلاح هو فعل عبادة وتكليف شرعي، فإنه في كثير من الحالات يمثل عبئا ثقيلا ينوء به الكثيرون، إذ إنه قد يلامس بعض ما يعتقد الناس أنه مسلمات في العقيدة والدين، مع أنها قد تكون مجرد عادات وتقاليد تسربت إلى الدين وأساءت إلى صورته... فلابد للعالم في هذا المجال أن يعمل لتغليب الجانب الرسالي في خضم الواقع الاجتماعي الصعب من دون محاباة لأحد، على أساس أن الجرأة العلمية تقتضي إيضاح الصورة تماما للناس، وإن كان ثمن العملية الإصلاحية باهظا في كثير من الحالات، وقد يكلف الإنسان المصلح الكثير على صعيد سمعته أو راحته وربما حياته.
وقد أكد الإسلام شمولية العملية الإصلاحية، لأن التجزيئية فيها ستجعل من العملية غير مضمونة النتائج ولا تؤتي ثمارها في صعيد الواقع كله. ولذلك لابد أن تسير العملية الإصلاحية على المستويات الفكرية والتربوية والسياسية والاقتصادية كافة، بحيث لا يصار إلى تجميد أي جانب من هذه الجوانب لحساب الآخر، لأن طغيان أي عنصر من هذه العناصر وانحسار العناصر الأخرى سيؤدي إلى شلل العملية وخروجها عن أهدافها المرسومة. ولذلك لم نكن لنوافق على الذرائع التي تتقدم بها أنظمتنا في الواقع العربي والإسلامي لتجميد أو إيقاف عجلة العملية الإصلاحية في الداخل وفق مبررات واهية ربطها البعض بضرورات الصراع مع العدو وربطها البعض الآخر بعناوين تتصل بخطورة هذه المرحلة أو تلك. وفي المقابل رأينا في دعوات الإصلاح الأميركية كلمة حق يراد بها باطل، لأنها تريد إصلاحا لحساب مشروعها في المنطقة بما يتناقض مع مصالح شعوب المنطقة ومكوناتها الروحية والثقافية والإنسانية.
الإصلاح ثقافة ضد الفساد
إن الإصلاح لابد أن يتجسد في الممارسة والسلوك ولا يتجمد عند حدود الكلمات والشعارات، فإن أكثر الطواغيت والمفسدين في الأرض كانوا دائما يرفعون شعارات الإصلاح ويعملون على تطويقه ومحاصرة العاملين له على مستوى السلوك والممارسة، حتى أصبحت قوانين الطوارئ هي القيد الذي يراد له أن يحكم العملية السياسية برمتها. ولذلك وجب على الأمة أن تراقب سلوك الحكام والمسئولين ومن يسمونهم "صناع القرار"، لا من خلال شعاراتهم بل من خلال خططهم ومشروعاتهم وممارساتهم العملية لكشف مدعي الإصلاح من المصلحين الحقيقيين من خلال رصد حركتهم في المعايير الأساسية للعملية الإصلاحية.
وانطلاقا من هذا فإننا نرى أن العملية الإصلاحية هي في الأساس فعل ثقافة يسعى إلى إصلاح الذهنية وإنتاج المصلحين واعتماد الإصلاح كبرنامج تربوي وتعليمي، كي نستطيع أن ننتج أمة تأخذ بالإصلاح، وتغير الواقع الفاسد في داخلها، وتسقط كل الفاسدين الذين يتسلطون على رقابها وتكون نموذجا للآخرين. إن المشكلة في واقعنا لا تكمن في وجود قيادات فاسدة فحسب، بل في أن هذه القيادات استطاعت إفساد الواقع وإفساد الذهنية العامة لكي تجد لها الأرضية في مجتمع يتماشى معها. ولذلك فإن الخطوة الأساس في عملية الإصلاح لابد أن تبدأ بإصلاح الإنسان في عالمنا العربي والإسلامي. فإذا استطعنا إنتاج الإنسان الصالح في البيئة الصالحة فسيعمل هذا الإنسان على إسقاط الفاسدين لينهض بعملية الإصلاح الشامل.
إن هناك تلازما بين صلاح الذات وإصلاح المجتمع، فمن لم يكن صالحا في نفسه فلا يمكن أن ترجو منه الإصلاح، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولذلك كانت مشكلتنا في لبنان ناشئة في الأصل من افتقادنا الكثير من الشخصيات التي تحمل طهارة سياسية وعفة أخلاقية وإخلاصا يدفعها إلى الذوبان في العام على حساب الخاص، وكذلك إلى الأسماء التي تمتلك مشروعات إصلاحية لا على مستوى الخطاب، ولكن على مستوى الهم اليومي الذي يتحرك فيه صاحب المشروع ليلاحق كل صغيرة وكبيرة لحساب هذا المشروع، ولابد للإصلاح من أن ينطلق كخطط ومشروعات، ولا يتم الاكتفاء بالعناوين الفضفاضة، بل أن تنطلق العملية الإصلاحية نحو أهداف محددة قابلة للقياس والمحاسبة ليكون خيار الناس لمشروعات الإصلاح قبل اختيارها لأبطاله ورموزه.
توزير الخونة والفاشلين
لقد كان علي "ع" يقول لعامله على مصر: "إن شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيرا"، ولكننا في واقعنا العربي والإسلامي واللبناني لم نلتفت إلى هذه القاعدة وغيرها، ولذلك ائتمنا الفاشلين والخونة على مستقبلنا السياسي والاقتصادي، ولم نع أن من لا يكون طاهرا لا يستطيع أن يطهر المؤسسات، وأن الفاسد في موقعه السياسي والاجتماعي وما إلى ذلك لا يستطيع أن يمنح الدولة أو المجتمع طهرا ونقاء وإصلاحا. ونحن في الوقت الذي نشعر بحاجتنا الماسة إلى الإصلاح الداخلي على كل المستويات، نحذر من أن ثمة محاور دولية وإقليمية بدأت تساوم في المسألة لتعطي بركتها وتسهيلاتها أمام هذه العملية على أساس ما يقدمه البلد في التزاماته الاستراتيجية وقضايا الأمة المصيرية، ولتمنع ذلك إذا لم تتحرك عجلة الإصلاح وفق برنامجها المعد سلفا للبنان والمنطقة والساعي إلى تطويع حركات الممانعة ومواقع الرفض... إننا مع الإصلاح في الداخل لحساب لبنان الدولة الحرة المستقلة بكل المقاييس، ومع الإصلاح السياسي الذي يعني فيما يعنيه قطع الطريق على كل المتسلقين الدوليين والإقليميين الذين يريدون رهن مستقبل البلد لحساب مخططاتهم ومشروعاتهم وأوضاعهم
العدد 1022 - الخميس 23 يونيو 2005م الموافق 16 جمادى الأولى 1426هـ