تصادف قرار استقالة الإمام الغزالي من وظيفة التدريس في "نظامية بغداد" وترك منصبه لشقيقه الكبير في العام 488هـ "1095م"، مع بدء حملات الفرنجة على بلاد الشام. والمصادفة لا تعني شيئا في تلك الأيام. فآنذاك كانت الأنباء تحتاج إلى وقت لتصل إلى الجهات المعنية بها، ولذلك لم تنتبه الخلافة العباسية إلى خطورة الموقف إلا بعد وصول قوات الفرنجة إلى تخوم الدولة.
خرج حجة الاسلام من بغداد طالبا الزهد وباحثا عن المعرفة المطلقة التي يتحسس لذتها ويشعر بها خارج الغرف والكتب والمكتبات. فالغزالي كما يبدو قرر الخروج على نظام المعرفة وأصول التدريس وخدمة السلطان بحثا عن مصادر أخرى تلبي حاجاته النفسية وتطلعاته إلى عالم حر يعيش لحظات سعيدة بعيدا عن رقابة السلطة وما يحيط بها من قلق سياسي. فهو بلغ ذروة التوتر ولم تعد تشبعه تلك الوظيفة الرسمية. فالقلق الدائم ومخاوفه الأمنية وعطشه نحو المعرفة أو ما يسميها "لذة السعادة" اجتمعت كلها لتؤسس مرحلة جديدة من حياة هذا الإمام/ الفيلسوف.
ومثل كل الفلاسفة كان الإمام يخاف من الشك وينطلق منه بحثا عن يقين يستقر عليه من دون خوف على وظيفة شكلت ذاك الحمل الثقيل. فقرر اختيار طريق الاستقلال الفكري الذي طمح ان يتوصل إليه من دون ارشادات أو مراقبة.
الغزالي الآن في طريقه إلى مكة المكرمة، فهو قصدها أولا لأنها مهبط الوحي ومبعث الرسالة. والوصول إلى هناك حاجا يعني البدء من جديد في رحلة البحث عن الايمان. والصوفية كما يراها حجة الإسلام هي المدخل الصحيح لتلك الرحلة الشائكة التي عذبته وهذبته واعادت صوغ شخصيته الشاردة والهائمة والمشتتة في الصحارى والبراري. فالصحراء هي البدء والطبيعة البكر ومنها يأخذ الإنسان حاجاته مباشرة ومن دون تصنيع. وبين رحلة وأخرى هناك محطة لابد من التوقف عندها لمواصلة السفر. وحتى ينسجم حجة الإسلام مع نفسه التائقة نحو المعرفة السليمة انقطع عن العلم وعن العالم في آن.
الانقطاع عن العلم والعالم "المحيط" شكل نقطة تحول معرفية في منهجية الغزالي. فالانقطاع هو نوع من القطع مع مرحلة سابقة والبدء في تأسيس مرحلة جديدة لابد ان تسبقها محطة توقف للتفكر والتفكير.
في هذه الفترة التي انقطع الغزالي فيها عن محيطه كان العالم من حوله يتحرك مضطربا في حياته وسياساته. فالغزالي كان ينعم في سكونه الداخلي بعد توتر وقلق بينما محيطه استمر يعيش لحظات خوف لا تنقطع من العمليات والحروب وحوادث الاغتيال السياسي التي دأب الحشاشون على تنفيذها في بغداد وعلى اطراف الخلافة. فدولة الحسن الصباح لن تتوقف عن ممارسة وظيفة الاغتيالات السياسية إلى العام 518هـ "1124م" موعد رحيل مؤسس فرق الحشاشين. وعلى المقلب الثاني بدأ الفرنجة تجهيز حملتهم الأولى في وقت استمر فيه الصراع السلجوقي - الفاطمي على بلاد الشام والقدس. فالصراع على القدس استمر على حاله مداولة بين السلاجقة والفاطميين بينما الغرب أخذ يقرع الأجراس معلنا بدء موعد حروب دموية لن تنتهي إلا بعد أكثر من 200 سنة على قيامها.
في خضم هذا الاضطراب كان الغزالي يواصل رحلته. فهو الآن انتهى من فريضة الحج وقرر الانتقال من مكة إلى دمشق. لماذا دمشق؟ لا جواب محددا. ربما يكون الاختيار مصادفة وربما لدوافع سياسية وأمنية وربما للابتعاد عن فضاءات بغداد المشحونة بالتآمر والتنافس. إلا ان المتفق عليه هو ان دمشق ستكون محطة الغزالي الثانية بعد مكة في رحلته الفكرية التي تقاس بالزمن لا بالجغرافيا.
توجه الغزالي إلى دمشق في العام 489هـ "1095م"، ويرجح ان يكون قد وصلها في العام 490هـ "1097م". وهناك من يقول انه غادرها في تلك السنة. المهم انه وبعد الوصول والاستقرار في عاصمة الامويين لم يغير حجة الاسلام عادته الجديدة: السكوت والعزلة والانقطاع عن العلم والعالم.
سكن الغزالي في محيط المسجد الاموي وكان يذهب اليه فجرا ويعتزل الصومعة منقطعا عن الناس وغير مكترث بما يدور حوله. فعالم حجة الاسلام انتقل إلى داخله وسافر روحيا إلى منطقة أخرى لا تجد لها متسعا في محيطه. فالمحيط الجغرافي ضاق بأهله وتحولت ساحات الشام إلى حلبة قتال وتقاتل واقتتال. آنذاك وفي العام 491هـ "1098م" شن الفاطميون هجوما على القدس وطردوا السلاجقة منها ليعود بعد ذلك فتيل الصراع الفاطمي - السلجوقي على بلاد الشام للاشتعال مجددا في وقت كان زحف الفرنجة بدأ مشواره الطويل.
عشية الحملة الأولى قرر حجة الإسلام البدء في كتابة مشروعه الفكري الذي سيكون له وقعه الكبير على اجيال لم تنقطع حتى أيامنا. فالغزالي بعد انقطاع عن العلم "المحسوس" دام قرابة السنتين توصل إلى اكتشاف ما ينقص الأمة، وما تحتاجه هو النهوض لتجاوز التخلف. فالأمة بحاجة إلى تجديد دينها واعادة ربط النظرية بالممارسة. ومنذ توصل الغزالي إلى تحديد هدفه "النهضة" بدأ بتأليف كتابه العظيم "احياء علوم الدين". فالكتاب الموسوعي الذي مزج فيه بين التقليد والابداع أخذ منه الكثير من الجهد وما تبقى من عمره المرسوم.
بلغ الغزالي الآن 40 سنة من عمره وحين بدأ يكتب مشروعه الاحيائي الكبير استقر على وضعه السابق، فاستمر في عزلته يؤلف ما يراه هو الاطار الصحيح لانقاذ الأمة من تخلفها وانهيارها وتفككها. وبقي الغزالي على حاله يكتب ويكتب مدة عشر سنوات حتى انجز مشروعه الاصلاحي النهضوي "الاحيائي" في وقت كانت بلاد الشام سقطت في معظمها في قبضة جيوش الفرنجة.
هناك الكثير من الملاحظات اطلقها النقاد ضد الغزالي منها ما يتعلق بالجانب الفكري ومنها ما يتعلق بالجانب الشخصي وحياة العزلة والانقطاع عن العالم في وقت كان محيطه يتعرض للاجتياح وتحتله قوات الفرنجة مدينة بعد أخرى. فالإمام آنذاك ظهر امام مريديه وكأنه غير آبه بما يحصل وغير مهتم بمجرى الحوادث الدموية التي كانت تتناقلها انباء غزوات الفرنجة وما ارتكبوه من مجازر ضد المدنيين في قرى ومدن الشام والقدس.
تصادف تأليف الغزالي أهم كتبه في لحظة اشتدت فيها المواجهات العسكرية لصد غزوات الفرنجة. ولا يعرف ما اذا بقي حجة الاسلام متسمرا في مكانه لا يتحرك. فالكلام عن تلك الفترة غامض إلا أن الثابت هو انه واصل كتابة مشروعه الاصلاحي، بينما لعب السلاجقة آنذاك دور القوة القائدة لمقاومة تلك الهجمات المتلاحقة.
ليس مصادفة ان يركز الفرنجة ضرباتهم الأولى على شمال غرب العراق. فالسيطرة على تلك المنطقة تفصل طرق الامداد وتعزل بلاد الرافدين عن بلاد الشام. وكانت ضربة موجعة للخلافة العباسية حين نجح الفرنجة في العام 491هـ "1098م" في الاستيلاء على الرها وتأسيس امارة هناك. بعد الرها توجه الفرنجة إلى انطاكيا "المدخل الشمالي لساحل الشام" ونجحوا في تأسيس امارتهم الثانية في العام نفسه.
وبسبب شدة الضربات وانقسام العالم الاسلامي وتفكك قواه بين المركز "بغداد" والدول الخارجة على الخلافة تشتتت الجيوش الاسلامية وتوزعت. وساعد هذا الأمر قوات الفرنجة على التقدم بحرا وتطويق المدن برا والتوجه مباشرة إلى هدفهم: القدس.
آنذاك كان الفاطميون استولوا على القدس وانتزعوها من السلاجقة قبل سنة فقط، وما كاد الحاكم الفاطمي "المستعلي بالله" يحتفل بفوزه على السلاجقة ونزع القدس من مظلة الخلافة العباسية حتى انقض الفرنجة في العام 492هـ "1099م" واستولوا عليها بعد ارتكاب مجزرة ضد المدنيين ذهب ضحيتها أكثر من 50 ألف شهيد.
سقوط القدس أحدث هزة سياسية في الديار الاسلامية، واندفعت الخلافة تجيش القوات لاستردادها. كذلك اضطرب حال الدولة الفاطمية اذ اصيبت القاهرة بصدمة نفسية لانها تتحمل مسئولية معنوية في عدم الدفاع عن المدينة المقدسة.
بعد سقوط القدس جرت محاولات كثيرة لاستردادها فشلت كلها سواء تلك التي أرسلتها بغداد أو تلك التي اتجهت من القاهرة. فالدولة الفاطمية نظمت مجموعة معارك وهجمات مضادة انتهت كلها إلى الخيبة، فاضطرت إلى سحب قواتها من بلاد الشام على دفعات امتدت على عامين "493 و494هـ". وتكرر الامر نفسه مع الجانب السلجوقي "العباسي" اذ نجح في خوض معارك كر وفر مع الفرنجة اوقف خلالها هجماتهم التوسعية الا انه لم يتوفق في استرداد القدس.
وفي فضاء تلك المعارك العسكرية بين ممالك أوروبا والديار الاسلامية الممتدة من المشرق إلى المغرب "الاندلس" كان الغزالي يعيش في عالم آخر. فالإمام قرر مواصلة كتابة مشروعه "الاحيائي" من خلال نسج عالم خاص به نجح في اختراعه وتخزينه في ذاكرته. فحجة الإسلام كما يبدو توصل إلى قناعة بأن الأمة بحاجة إلى إحياء "تجديد الدين"، ومن دون تلك النهضة "تحقيق شروطها الموضوعية والذاتية" لا أمل لقيام الناس وتقدمهم. وهذا ما تحقق لاحقا بعد زمن طويل على غيابه
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1022 - الخميس 23 يونيو 2005م الموافق 16 جمادى الأولى 1426هـ