الفكرة التي طرحها أحد الصحافيين أمام وزير الداخلية في مؤتمره الصحافي، فكرة جديرة بالثناء. أصارحكم إنها مرت بذهني قبل أكثر من عام، وتحديدا بعد تعرض قوات الأمن لمسيرة التضامن مع الشعب العراقي ضد الاحتلال الأميركي، إذ انهالت على المتظاهرين المسالمين ضربا بمسيلات الدموع، في حركة عنيفة انتهت بتغيير كبير في وزارة الداخلية. ومع ذلك كتب بعض "المناطقة" مبررا فظاعة العنف الحكومي، ومحاولا إلقاء اللوم على المشاركين في المسيرة، وهو موال مكرر كتب علينا أن نسمعه كلما خرجت مسيرة لأي غرض من الأغراض.
وكما شهدنا المسيرات تتكاثر وتكاد تخرج أحيانا عن المألوف، شهدنا الحجج والمقالات تتكاثر أيضا مثل الذباب. الجديد أن الحجج القديمة سقطت ولم تعد صالحة للاستخدام "البشري" في فترة الإصلاح، فلم نعد نسمع: "محاولة قلب نظام الحكم" و"زعزعة الأمن والاستقرار" وغيرها من المقولات الفاسدة. وتم استبدالها بمقولات أكثر طراوة: عرقلة حركة المرور، وعرقلة حركة جذب الاستثمارات، وعرقلة عجلة الاقتصاد الوطني، ومجموعة لا تنتهي من "العرقلات"! بل إن أحد النواب "أفتى" من خارج البحرين، بأن المسيرات "ساءت "هكذا من دون حرف الألف" إلى سمعة البحرين في المحافل الدولية، وهربت العديد من الاستثمارات المهمة"!
ولأننا في بلد يلقي كل من هب ودب بأقواله من دون تمعن ولا تفكير ثم يتراجع عنها ويتنصل منها، فإننا كمواطنين مهتمين بالشأن العام ونعيش وسط المعمعة السياسية منذ ربع قرن، لم نعرف أسماء الشركات التي هربت حديثا بسبب مسيرة سلمية... ولا عددها ولا حجم الاستثمارات "المهمة"! وبودنا لو تفضل علينا سماحته بتبيان "مصادره" الخاصة... أم أنه الوحي الذي ينزل على "ناس دون ناس"!
أما المعضلة الكبرى فإنها "أساءت إلى سمعة البحرين في المحافل الدولية"، ولكننا للأسف الشديد لا ندري أية محافل دولية هذه؟ الأمم المتحدة؟ أم مجلس الأمن الدولي؟ أم منظمة العمل الدولية؟ أم منظمة الأقطار المصدرة للبترول "أوبك"؟ أم "اليونسيف"؟ أم "الأمنستي انترناشيونال"؟ أم "هيومان رايتس ووتش"؟ أم أنه موضوع فيلم جديد يجري التفاوض لإنتاجه وراء الكواليس كما جرى إنتاج فيلم "الإرهاب والكباب في البحرين" وعرض أمام "اللجنة الدولية لمناهضة التعذيب" في جنيف في مايو/ أيار الماضي لتضليل و"غسل" أدمغة الخبراء الدوليين المتخصصين في كشف مصادر الإرهاب والإرهابيين الحقيقيين!
ان اقتراح الصحافي الساخر بتخصيص "قطعة أرض" لمشروع "هايدبارك البحرين" اجتهاد يستحق الثناء والتقدير، فمهما طال الزمان أو قصر، لابد للبحرين من هايدبارك. على الأقل سيوفر على الحكومة شراء الهراوات في المستقبل، وسيوفر على موازنة الدولة بند شراء "مسيلات الدموع" والرصاص المطاطي، وسيوفر على أبناء الشعب من "هواة المسيرات" الضرب المبرح ورائحة الغازات الخانقة، كما سيوفر على المواطنين مشكلة "خياش" البصل التي تنفد من أسواق الخضار كلما اقترب موعد مسيرة أو اعتصام!
يبقى أن اقتراح "الهايدبارك" بمقدار بساطته وعقلانيته، فإنه يضعنا أمام المعضلة الكبرى: أين؟ فأين يمكن أن نحدد موقعا لائقا بـ "هايدباركنا" المأمول؟ وكيف تعثر على قطعة أرض تتسع للآلاف مادام 90 في المئة من الأراضي العامة مملوكة للأفراد؟ أي أحمق سيتبرع لهواة المتظاهرات بالتجمهر في أرضه؟ حتى المناطق غير المأهولة... رأس البر مخصص للغزلان، السواحل مسورة بالحيطان، جزيرة النبيه صالح أصبحت فيللا فاخرة لأبناء الذوات، وسترة مرفأ صناعي للشركات والمصانع، ومن الخيانة الوطنية أن تفكروا في الاقتراب منها لئلا تهرب الاستثمارات! وزارة الصناعة ستعترض! ماذا بقي إذن؟ جزر حوار...؟ ومن ذا يصل إليها وثمن التذكرة بحرا أغلى من ثمن التذكرة جوا إلى دبي؟ ثم هل تريدون "تطفيش" المستثمرين و"عرقلة" المشروعات الاستثمارية الضخمة المقبلة لإنعاشها؟
حتى لو فكرتم بشارع الملك فيصل الذي ينتهي بمجمع السيف العامر بالحيوية والنشاط والأموال، فإن وزارة التجارة ستعترض! وإذا فكرتم بالاستاد الوطني كمخرج للأزمة... فستعترض المؤسسة العامة للشباب والرياضة خوفا من تسييس الرياضيين في البلد! وتعرفون ما يسببه هذا الوباء من ارتيكاريا في وزارة العمل من قبل، وما يسببه حاليا في وزارة الشئون الاجتماعية!
وكما ترون... ليس في البحرين موضع للمسيرات، أينما تولوا فثم عرقلة لحياة العباد وتشويه لسمعة البلاد... بقي مكان واحد ربما لم يخطر ببالكم أيها السادة... استرشادا بتجربة الإنجليز الذين اختاروا موقعا واسعا في عاصمتهم لندن، كان مكانا لإعدام المحكوم عليهم بالموت، فتحول تدريجيا من موقع للتظاهرات السياسية والعمالية، إلى أهم متنزه ومركز سياحي للتسوق. ولابد أن نعترف أن البحرين بحاجة ماسة إلى منطقة تستوعب تجمعات الناس من دون أن تتعطل الحياة. مثل هذه المواصفات تنطبق على مكان واحد فقط: "القلعة"! التي ارتبطت في ذاكرة المواطن بالاعتقالات والتعذيب، لتكون "هايدبارك البحرين". مشروع بمقترح برغبة أضعه أمام السادة النواب، علهم يخرجون بشيء لصالح الديمقراطية في البلد أفضل من الإفتاء عن المحافل الدولية، أو مطالبة وزارة الداخلية بلبس المخالب والأنياب
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1021 - الأربعاء 22 يونيو 2005م الموافق 15 جمادى الأولى 1426هـ