لائحة الاغتيالات في لبنان تبدو طويلة وممتدة في تشعباتها وعناوينها. وصلت اللائحة الآن إلى جورج حاوي الذي اغتيل الثلثاء الماضي بعد اغتيال الصحافي سمير قصير. وغدا لا يعرف من هو الاسم الموضوع على رأس القائمة. وبما أن الأسماء عشوائية فمن الصعب توقع الهدف المقبل.
عادة تكون الاغتيالات واضحة المعالم وأهدافها غير خافية على متابع دقيق لمجرى السياسة. ولكن حين تتحول الاغتيالات إلى سياسة بعينها فيصبح البحث عن الغايات وسيلة عبثية للإجابة عن الأسئلة المطروحة من نوع: من المستفيد؟ ولمصلحة من؟ ومن هو المنفذ؟ ومن هو الفاعل؟ ومن خطط وسهل وحرض وغيرها من نقاط يمكن أن توصل الباحث "أو المباحث" إلى رسم صورة تقريبية لوجه القاتل.
ما يحصل في لبنان نوع من "الفوضى البناءة". فالاغتيالات تريد توصيل رسالة وليست هدفا. فالهدف حين يتحول إلى وسيلة يصبح القتل من أجل القتل استراتيجية متحركة. ويلعب القاتل دور قناة لبث الرعب والإرهاب النفسي قبل السياسي. والقتل "القاتل" في هذا المعنى لا يختلف كثيرا عن بعض الفنانين العبثيين الذين لا هدف لهم من فنهم. وهذا النوع من العبثيين يفسر فنه بأنه مجرد "فن من أجل الفن". أي أن الفن بحد ذاته هو رسالة وهو ليس بحاجة إلى هدف لتبرير فنه.
"القتل من أجل القتل" هي الرسالة السياسية التي يريدها القاتل من وراء سلسلة الاغتيالات التي عصفت بلبنان منذ التمديد للرئيس الحالي. فلكل حادث مئة تفسير. ووراء كل تفسير أكثر من مستفيد. ومجموع التفسيرات تطرح التباسات عن الطرف المستفيد من إثارة هذه "الفوضى البناءة". وفي الفوضى تختلط الأمور وتتشابك الاتهامات وتتشعب الآراء إلى درجة يصعب على المراقب "أو المحقق" أن يحدد سياق المعلومات فتضعف عنده إمكانات الربط والتحليل والتفكيك والتركيب وصولا إلى تعيين الجهة المطلوبة.
هذا النوع من "الفوضى" يعطل كثيرا على المحقق الباحث عن الحقيقة قدراته على التركيز فتضعف همته مع مرور الأيام ويستنزف قواه نظرا إلى تشتت المعلومات وتنوع الأسماء التي تتساقط من قائمة الاغتيالات.
هذا النوع من "الذكاء" له مخاطره وسلبياته على "القاتل". فهو يفترض مجموعة احتمالات ربما لا تكون واردة عند هيئة التحقيق وكذلك قد تؤدي كثرة الاغتيالات إلى زيادة الأخطاء وتسهيل عمل المحققين في الكشف عن الحقيقة. والأهم من كل تلك الفرضيات ربما تدفع سياسة القتل العشوائية إلى تسريع وتيرة اتخاذ قرارات سلبية مستفيدة من أجواء القلق والتوتر.
توسيع عملية القتل لحماية القاتل ربما تكون وسيلة للإرباك بغية دفع البلد الصغير من حال الحرب الأهلية الباردة إلى حرب ساخنة... إلا أنها ليست بالضرورة سياسة ناجحة في بلد يمر بمرحلة انتقالية وفي إطار منطقة مراقبة دوليا.
لا يعرف حتى الآن المعنى السياسي من وراء اغتيال شخصية تاريخية من وزن جورج حاوي. ولا تعرف تلك الملفات التي فتحت واستخدمت ذريعة لاتخاذ قرار باغتياله. إلا أن الجريمة الإرهابية ارتكبت في سياق تداعيات أمنية بدأت منذ اتخاذ قرار التمديد وتفاعلاته الدولية الذي تحددت سلبياته في القرار .1559 فبعد ذاك القرار/ التمديد جرت في النهر اللبناني جداول كثيرة وهي في مجموعها تصب في إطار عريض يؤكد خطورة الفراغ الذي نشأ بانسحاب سورية العسكري وظهور شبكات تدفع باتجاه التفجير وإحداث فتنة في البلاد.
حتى الآن لم يحصل التفجير على رغم أن كل عناصره السياسية موجودة. وحتى الآن لم تقع الفتنة على رغم أن التوتير الطائفي بلغ أشده في المراحل الأخيرة من الانتخابات النيابية. وهذا يدل على أن سياسة الاغتيالات فشلت في توجيه تلك الرسالة إلى المعنيين بها، وبالتالي فإن المسألة تراوح مكانها وربما تشكل بداية رد على تلك الرسائل وهو: إن قرار الحرب الداخلية لم يتخذ بعد أو هو ممنوع دوليا. وفي هذا الأمر أكثر من جواب محتمل أحدها رفض العودة إلى الوراء. فالفراغ الأمني الذي حصل يمكن تعبئته سياسيا بقوى ليست بالضرورة أن تكون من النسيج المستهلك إقليميا.
عادة تكون الاغتيالات هادفة في سياستها إلا أن ما يحصل في لبنان تجاوز تلك الأسئلة الروتينية المتعلقة بشأن الغايات وبات الأمر رهينة قرارات محكومة بالوقت... وأيضا بالتوقيت الذي تحدده القوى الكبرى المعنية مباشرة بتعبئة الفراغ الناجم عن اختلاف قواعد اللعبة وتبدل شروطها الدولية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1021 - الأربعاء 22 يونيو 2005م الموافق 15 جمادى الأولى 1426هـ