العدد 1021 - الأربعاء 22 يونيو 2005م الموافق 15 جمادى الأولى 1426هـ

غريــــــب

قصة قصيرة - حسن الصحاف 

تحديث: 12 مايو 2017

نحن مجتمع الحمير لا نشعر بالغربة أبدا بين بعضنا بعضا فكل منا يعرف انه حمار وينتمي إلى مجتمع الحمير قاطبة لا فرق بين حمار وحمار فباستطاعتنا أن نترك أماكننا ونذهب إلى آخر الدنيا من دون أن نشعر بالغربة فنهيقنا واحد وأشكالنا واحدة وإن اختلفنا في الطول والقصر والارتفاع وحتى رموزنا التي عرفنا بها عبر العصور "آذاننا الطويلة" هي واحدة وحموريتنا واحدة لاخلاف فيها، ولكن على ما يبدو أن الأمر تغير وأصبح مختلفا ومعقدا جدا. القصة بدأت بعد أن خسر بنو البشر الذي كان يعتني بي وأعتني به خسارة فادحة، فهو في عرف البشر قد أفلس ماديا وبيعت جميع حاجياته وممتلكاته ومنها حضرتي أنا الحمار الصابر على مختلف الصعاب، وللحق أقول إنه لعجب جدا أن أرى صاحبي وقد هطلت دمعة من عينيه عندما رسى المزاد على رجل له كرش كبير منتفخ الوجه مفتول العضلات نصف وجهه شوارب طويلة مكتنزة شعرا وله لحية كثيفة طويلة تصل إلى خاصرته. تنحا بي صاحبي جانبا بعد أن رسى المزاد وافترق العباد وأخذ يمسح على جسدي برؤوس أصابع يديه ويحدث نفسه ويعتذر أشد الاعتذار عن هذا الوضع المأسوي الذي وضعني فيه وتمنى لو في مقدوره أن يبقيني معه أبد الدهر ونأكل معا في كل يوم كسرة خبز يابسه، غير أن الرياح كما قال تجري على عكس ما تشتهي السفن. توادعنا وداع الأحباب وبانت دموعي التي لم تظهر لأي كائن من كان طوال حياتي أمام صاحبي وهو يمسح دموع عينيه ويتشنج وبات هو يتأوه وأنا أتأوه حتى سحبت من بين ناظريه إلى الأبد.

سحبني رجل قمطرير بقوة وشدني إليه ووضع قيدا ثخينا حول رقبتي وبقي يجرني بقوة وأنا أعاند وأحرن في مكاني وأصبحت لفترة ليست بالقصيرة عصيا على القيادة والانقياد وهذه هي المرة الأولى التي أتصرف فيها بمثل هذه التصرف الأحمق غير اللائق بالحمير، تبينت أن الرجل القمطرير هو مالكي الجديد. عاندت كثيرا غير أن عنادي كله ذهب سدى فجميع الحمير تضحك لعنادي وتقول عني إني مجنون، هذا فقط لكونها عرفت منذ وقت طويل وعبر خبرتها الكبيرة ألا فائدة في العناد مع هكذا بشر يؤمنون بعضلاتهم أكثر من إيمانهم بعقولهم.

وصلنا الزريبة فأعتقني ذلك الرجل الشرير من ذلك القيد المشين فهززت جسدي كله وكأنه قد أصابني داء الرعاش وهو على خلاف مرض الرعاش الذي يصيب البشر لكونه عندنا نحن الحيوانات مرضا جرثوميا؛ ثم نفضت عني كل حبة رمل لصقت في جسدي من جراء العناد والحرن خوفا من جراثيم قد تكون لصقت بي. نظرت حولي وإذا بجماعة من الحمير تتشكل على شكل مجموعات فدققت النظر فيها وأهالني منظرها فقد كانت واجمة الوجوه جاحظة العيون ممدودة جحافلها إلى أسفل وممتلئة زبدا. لبرهة ظننت أني أمام جثث طال أمد موتها أو أن تكون حميرا نائمة في غير وقت نومها فاتحة عيونها غير باصرة بما يدور حولها غير أن تلك البرهة لم تدم طويلا فقد أيقظتني نهقة ورفسة من جحش صغير كان يعبث بشيء ما في زاوية بعيدة من الزريبة. في العادة نبادر نحن مجتمع الحمير باستقبال أي حمار جديد يدخل الزريبة فنشمه شما ثم نلعق رقبته لعقة طويلة ثم نقبل جحفلته. لم يحصل أي من هذا في هذه الزريبة فشككت بأني أحلم وأن الحوادث الجسام التي مررت بها لا تعدو كونها أحلاما. تلفت حولي فوجدت هيكلين عظميين ممدودين على الأرض لا يقربهما أحد، هيكلين عظميين ليس لهما رأس وهما على ما يبدو لجحشين لقيا مصرعيهما صغيرين. دققت النظر بالهيكلين ووددت معرفة سر بقائهما على وجه الأرض ولم يدفنا كما بقية الحمير والجحوش. لم تسعفني معرفتي بحال الحمير من معرفة الإجابة الصحيحة.

وبعد أن مكثت يومي الأول أتمعن في ما حولي من حمير وجحوش وأتان وأحاول أن أعرف لم هذه الحمير تختلف عنا نحن مجتمع الحمير بدا لي الأمر غريبا وخلته ناتجا عن ذلك الآدمي الرجل القمطرير الذي لا يستخدم عقله ولا يوظفه خير توظيف معهم، غير أن الأمر كان أصعب من أن يفهم. في المساء بدت الصورة تتضح لي شيئا فشيئا فعرفت أن الحمير لا تتحدث مع بعضها بعضا، كل له فريقه وكل له أحاديثه. فهذه الحمير التي على يميني لا تأكل من سطل الحمير التي على شمالي وهذه لا تنهق إذا نهقت تلك الحمير وتبقى صامتة تتفرج وهذه لا تطرد الذباب إذا ما بادرت الحمير الأخرى بطرد الذباب وكانت كل فرقة من فرق الحمير تحاول أن ترضي صاحب الزريبة ذلك الرجل القمطرير بالطرق كافة، فهي تارة تنهق له نهقا موسيقيا شاعريا وهي تارة تمسح جانبيه كما يمسح الجوخ وهي تارة تتبرع للقيام بالأعمال المضنية المتعبة حتى بعد ساعات العمل المعهودة. كان صاحب الزريبة يعلم بهذا الاختلاف فكان يمحور سياسته على هذا الاختلاف ويجعله يعمل لمصلحته.

حاولت كما ذكرت مسبقا معرفة سر الخلاف بين الحمير فباءت جميع محاولاتي بالفشل، غير أنه لم يصبني اليأس وضللت محاولا الوصول إلى السر.

وبينما أنا في زاويتي لا يقربني أحدا من الحمير أتبصر فيهم وفي سلوكهم وإذا بجحش صغير عديم الخبرة يأتي صوبي ويلعق عنقي وينهق نهاقا جميلا فاستلطفته واستلطفني وداعبته وداعبني ثم هو انسدح قبالتي وأشار بحافره الصغير إلى الحمير التي على يميني وقال: "إن جماعتي من الحمير تود أن تتعرف عليك!" قلت له: "قبل أن أقبل تلك الدعوة: أرجو أن تخبرني لم تتصرف هذه الحمير بهذه الطريقة الغريبة العجيبة مع بعضها بعضا". ضحك الجحش الصغير ضحكات لم أعهدها من جحش من قبل وأنا صاحب الخبرة بالجحوش ومتطلباتها وقال: "لا أعرف، لكن سأحكي لك حكاية هي سبب الخلاف كله". سكت قليلا ثم قال: "هل ترى الهيكلان العظميان هناك، إنهما سبب المشكلات كلها. فقد جاء عن كبير حميرنا أن هاذين الجحشين ولدا من دون رأس ويقال إنهما حماران كبيران، أي إنهما ولدا بجسدين فقط لا غير. غير أن الحمير الأخرى تعتقد انهما ولدا بعدة رؤوس، وأن الرؤوس تلك اختفت من الوجود". كما أضاف: "ولأكن أكثر صدقا معك يقال إن لهما أذنابا كثيرة هي الأخرى اختفت من الوجود لما اختفت الرؤوس" نظرت إليه وقلت "أيهما تصدق أنت؟ هل هما من غير رؤوس أو برؤوس عدة؟ وهل الأذناب اختفت حقا بعد أن اختفت الرؤوس؟" نظر إلي بعد أن مرغ جسده في تربة الزريبة وطرد عددا من الذباب بذيله وقال: "يظهر أنهما ولدا برؤوس ومن دون رؤوس" قلت "كيف؟" قال: "يمكن أنهما ولدا برؤوس ثم إنها قطعت لسبب ذكائهما أو لسبب غباوتهما أو إنهما اشتركا في شيء مخالف لقوانين الزريبة" سكت قليلا ثم أكمل "ويمكن أنهما ولدا من دون رؤوس البتة ولم يكن لهما عقل إطلاقا".

تذكرت فجأة قصة أخبرني بها جدي الخامس عشر عن حمارين توأمين ولدا برأس واحدة وماتا نتيجة الإهمال أخبرت بها الصغير الذي طار من لحظته إلى جماعته من الحمير وأخبرهم بالقصة وإذا بهم يشنون علي الحرب وينهقون نهيقا تتصاعد حدته شيئا فشيئا حتى انه ولشدة حدته جلب علينا الشر من ذلك الرجل القمطرير وأخذ يضرب كل حمار يظهر في طريقه بعصى غليظة ومن ثم قام وحبس حميرا كثيرة في أماكن معزولة. هدأت الزريبة من بعد غير اني بقيت طوال حياتي في هذه الزريبة مثل الغريب الأجرب لا يكلمني أحد لا من الحمير التي على يميني أو تلك التي على يساري حتى ذلك الجحش الذي كبر الآن وأصبح حمارا يعتد به هو الآخر ابتعد عني حتى لا أغسل مخه وأطلعه على الحقيقة كاملة عن الهيكلين كما قالوا له وأفهموه.

أنا الآن أشعر بالغربة ليس من المكان فحسب، ولكن أيضا من الحمير جميعا وهذا ليس من عادتنا نحن الحمير أبدا أن نشعر بالغربة من بعض. أنا غريب في زريبة غريبة ولا علم لي إلى متى سأبقى أشعر بالغربة؟





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً