ليس الاعتراض على المكافآت في المبدأ، على العكس من ذلك يجب تشجيع الحوافز، كاحدى الآليات في تعزيز السلوك الإيجابي. فكل مجتهد يحب أن يكافأ ويثاب على عمله، وعلى رأس هؤلاء كبار مسئولي الدولة من وزراء ونواب وشوريين ووكلاء وغيرهم، الذين من حقهم أن تصرف لهم رواتب مجزية ومزايا تتناسب والدور القيادي الذي يضطلعون به، وبما يجعلهم في مأمن من وشوشة الشيطان، واغواء الرشا التي يقال إنها ظاهرة لا يمكن نكرانها في بعض مؤسسات الدولة، كما اشار إلى ذلك عدد من المشاركين في ندوة الإصلاح الاقتصادي التي رعاها ولي العهد في فبراير/ شباط الماضي.
إن الاعتراض يتركز في رفض العطايا غير المقننة، التي تمنح خارج سياق الشفافية والموازنة العامة للدولة، أيا كان السبب والجهة التي توجيهها او تعطى: وزيرا أو نائبا أو جمعية سياسية... لقد بات من غير المقبول استمرار سلوك موروث من دولة ما قبل الإصلاح، بمنح الوزراء والوكلاء وفئات أخرى هبات وعطايا ليست مسجلة في المصروفات، بما يناقض دولة القانون التي ننشد.
في إجابته على سؤال للنائب يوسف زينل، اقر وزير المالية بأن الوزراء منحوا "من خارج الموازنة، وكعرف متبع"، 50 ألف دينار، دون أن يذكر عدد الوزراء، وإن كان يشمل من هم بدون حقيبة. مثل هذا الإقرار يفتح الباب واسعا للخيال عن كم الأعراف المتبعة، ومتى دشنت، ومن تشمل، والتي عبرها يبرر منح اعضاء السلطة التنفيذية، والمؤسسة التشريعية، والوجهاء والأعيان والكتاب وبعض زائري البلد هبات وعطايا، بمناسبة وغير مناسبة دون أن يعلن ذلك أو يوثق.
وفي الواقع، فإنه لا يعرف كم عدد الذين أثروا على حساب الناس من هذه العطايا، كما لا يعرف إلى أي مدى تمثل هذه العطايا سببا في فقدان الدولة لأراضيها، بعد أن وزعت بطريقة لا يمكن وصفها إلا بالكارثة، إذ أصبحت الدولة بلا أراض، ما جعل وزراة الاسكان تعلن أنها ستصرف ثلث موازنتها "70 مليون دينار" لإعادة استملاك الأراضي التي وهبت... أي أن العطايا التي تمنح تستردها الدولة مرة أخرى من جيوب الناس.
وحتى لا يصبح الحديث عاما، وفي ظل صمت السلطات عن المنح الأخرى، ومن بينها المبالغ التي تمنح في شهر رمضان، والتي تقدر - كما سأل النائب يوسف زينل - بمئة وخمسين ألفا للوزير بحقيبة ومئة الف للوزير بدون حقيبة، وكذا منحة الـ 250 ألفا التي تعطى للوزراء بعيد مغادرتهم كرسي الوزارة... فإن المعلومات المتوافرة، والتي أدلت بها مصادر موثوقة، تفيد بأن إعطاء الوزراء الذين يتركون مناصبهم ربع مليون دينار سلوك بدأ منذ العام ،1995 حين أجري أول تغيير وزاري منذ العام 1975 وذلك على خلفية حوادث التسعينات. وعلى الأرجح فإن هذا السلوك استمر في التغييرات الوزارية اللاحقة بما في ذلك التي جرت إبان سنوات الإصلاح.
وبحسبة بسيطة، فإن عدد الوزراء الذين أعفوا من مناصبهم أو تخلوا عنها منذ منتصف العقد الماضي لا يقل عن 16 وزيرا بحقيبة، "لم أحص عددهم بدون حقيبة"، ويمكن تقدير كلفة هذه العطايا بنحو أربعة ملايين دينار، وهو مبلغ كبير، ويمكن أن يحل مشكلة سكنية لـ 200 أسرة، إذا افترضنا أن الوحدة السكنية تكلف الدولة نحو 20 ألف دينار.
أما الوزراء الذين يعينون للمرة الأولى، فإنه لا معلومات كافية بشأن العطايا التي تمنح لهم، لكن تأكد أن عددا من الوزراء الذين عينوا منحوا بين 200 ألف إلى 350 ألف دينار، فضلا عن أرض أو عدة أراض تقدر قيمتها بمئات الآلاف من الدنانير... وإذا افترضنا أن الحكومة تود أن تكون عادلة في العطايا، فإنه لا يستبعد أن يكون مثل هذا السلوك عرفا عاما يشمل كل أو غالبية الشخصيات التي تولى مسئولية وزراية.
ومجددا، فإن الإشكال يتعلق أساسا بعدم وجود ضوابط لمثل هذه العطايا، والأدهى انها تصرف خارج الموازنة، مع أن الدستور ينص في الفقرة "ب" من المادة "45" على أنه "يعين القانون مرتبات رئيس مجلس الوزراء والوزراء"، وبالتأكيد فإن ذلك يشمل أيضا المزايا الأخرى.
المعلومات المتوافرة أيضا، تفيد بأن هناك قائمة بعدد من أعضاء مجلس النواب الذين منحوا عطايا، لم تعلن طبعا ولم تسجل في الموازنة... وعلى هؤلاء وكل الوزراء أن يدركوا أنه منذ 14 ديسمبر/ كانون الأول 2002 على الاقل يمكن لمجلس النواب أن يمحص في مثل هذه الأمور، وإذا كان المجلس الحالي ضعيفا ولا حيلة له، فإن المجالس المقبلة قد تنبش بعض ما هو مسكوت عنه الآن، وقد يتضاعف الحرج مع إقرار قانون الذمة المالية الذي يلزم المسئولين بإعلان ممتلكاتهم، وسيكون مثيرا للشك أن يكون غير المليونير قبل خمس سنوات مليونيرا بعدها
العدد 1020 - الثلثاء 21 يونيو 2005م الموافق 14 جمادى الأولى 1426هـ