سألت زميلا صحافيا درس في الاتحاد السوفياتي السابق عن سر مطالبة أحد النواب هناك بالتحقيق في اختفاء البطاطس من الأسواق أيام الجنة الشيوعية، ولماذا كل هذا الاهتمام بـ "الآلو" الذي لا يزيد سعر الكيلو منه عندنا على 200 فلس؟ فقال: لأن "الكارتوشكا" هو الوجبة الرئيسية في روسيا، فالروس يأكلونه في الإفطار والغداء والعشاء، ويدخلونه مع السواللحم وغيره من الطبخات! لذلك فإن اختفاء البطاطس يعني تجفيف المائدة الروسية من أهم عناصرها، وبمعنى آخر: تجويع شعب تعداده 200 مليون نسمة! لذلك لم يكن غريبا أن يغامر نائب شريف في مجلس الدوما برقبته في سبيل إنقاذ شعبه من المجاعة، رغم ان التاريخ لم يذكر ان الشعب الروسي آنذاك خرج في مظاهرات للمطالبة بإرجاع البطاطس إلى الأسواق! والسبب معروف: "قانون أمن الدولة الروسية"! هذا القانون نفسه لم يكن يمنع المظاهرات المليونية التي يسيرها الحزب في مناسبات كفوز المنتخب الوطني في تصفيات كأس العالم أو عيد جلوس الحزب أو عيد الثورة البلشفية المجيدة! مع ذلك يقرر علماء الاجتماع المعاصر أن كثرة الاعتصامات والمظاهرات دلائل مرض وليست دلائل صحة في كثير من الأحيان، والمرض يعني وجود اختلالات عضوية في الجسد. والمظاهرات أو المسيرات مثلها مثل البثور، هذه تظهر على سطح الجلد وتلك على سطح المجتمع وفي شوارع المدن والأحياء.
وكما أنه لا يوجد شخص يعشق البثور والقروح، كذلك لا يوجد شخص يعشق المظاهرات والسيرمجانا في الشوارع، وخصوصا إذا كان الجو حارا لا يطاق.
ثم ان البحريني ليس كائنا "مظاهراتيا"، ورث حب التظاهر عبر الجينات، انما هي وسائل للتعبير عن مواقف ومطالبات، بعضها عمره سنوات قليلة، وبعضها يعود إلى ستين عاما. بعضها يتعلق بالخبز و"العيش"، وبعضها يرتفع قليلا عن مستوى المائدة إلى أفق المعنى والسمو المعنوي الذي يميز الشعوب المتحضرة، من قبيل المطالبة بالعدالة والمساواة واحترام القانون وعدم التمييز بين الناس وإعطاء الحقوق لأصحابها. فنحن أمام "سلة" من المطالب المعلقة، هي جوهر الحركة الوطنية التي يناضل من أجلها شعب هذه الجزر الطيبة.
ولو بحث أحدهم في تاريخ البلد، لهاله ما لعبته المظاهرات من دور في توجيه تاريخ البحرين السياسي. فمنذ خمسين عاما والشارع لم يسكن ولم يهدأ، لكل مرحلة صبغة معينة من النضال: سياسية واجتماعية واقتصادية، وطنية وأممية ودينية. كل الألوان دخلت على المظاهرات لتترك طابعها في فترة من الفترات.
وعليه لم تكن المظاهرات غريبة على شعب البحرين ولم يكن شعب البحرين غريبا على المظاهرات. من هنا فإن المقالات والافتتاحيات التي تتحدث عن "حمى المسيرات" يثبت أصحابها انهم لم يقرأوا الحركة السياسية في هذا البلد. وفي السياق نفسه، يأتي التقاط صور المسيرات والمظاهرات من "السماء السابعة" بطائرات الهيلوكبتر، لنشرها في اليوم التالي من أجل إثبات ان المتظاهرين انما هم "شرذمة قليلون وانهم لنا لغائظون"، في محاولة فاشلة لإخفاء الواقع البائس للآلاف من أبناء هذا الوطن، وقفزا على تطلعاته الإصلاحية المشروعة من أجل غد أفضل.
نشر الصور بهذه الصورة لن يغير الحقائق الموجودة على الأرض، ولن يخفف التوتر والاحتقان الموجود في الشارع. ونشر أرقام مشكوك في دقتها فضلا عن صدقيتها عن "خسائر" الاقتصاد الوطني في كل مسيرة "10 آلاف دينار!" لن يقنع الفئات المهمشة والبائسة بعدم المشاركة فيها. فالشاب العاطل عن العمل الذي يرى العمالة الأجنبية تختطف فرصة العمل من فمه لن يهمه من خسر ومن ربح. هذه بعض نواميس الحياة التي يجب الاعتراف بها أولا قبل إرسال طائرات الهيلوكبتر إلى أغوار الفضاء لتصوير المسيرات بحيث تبدو خطا صغيرا لا يزيد تعدادها على عشرة "قرعان"!
على أننا نحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، فعلى كل حال، فمازلنا حتى "الآن" أحسن حالا من الفترة السابقة، من بعض الوجوه، فالطائرات لم تعد تمطر المتظاهرين بـالرصاص المطاطي أو مسيلات الدموع! وغالبية المشاركين في المسيرات اليوم يعودون إلى منازلهم آمنين، أما التظاهر بالأمس فكان يقودك إلى أقبية التعذيب إذ يحولونك إلى بطاطس "مهروسة"، وتنتزع منك الاعترافات بأنك "خائن للوطن"، أو منتم إلى "تنظيم إرهابي يحاول قلب النظام العالمي الجديد"... بما يكفل لك تهمة تخولك التمتع باستضافة مجانية لسبع سنين في إحدى القلاع
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1020 - الثلثاء 21 يونيو 2005م الموافق 14 جمادى الأولى 1426هـ