المشهد اللبناني من الفضائيات يختلف عن الواقع والحراك الاجتماعي في هذا البلد الصغير. فتحت الأضواء تجري الطوائف والمذاهب والعشائر في مناطقها تتوزع النفوذ والزعامات السياسية.
الفضائيات شيء ولبنان مسألة أخرى. وما يسمى بالديمقراطية التوافقية ونظام المناصفة والمثالثة والمحاصصة يقوم على مجموعة تسويات دقيقة يصعب تغييرها بسهولة. فالتغيير يثير تشنجات وعصبيات تخالف تلك الصورة التي تظهر على شاشات التلفزة.
لبنان غير ما نراه. فهناك مجموعة حلقات تتحكم بشخصية اللبناني وهي تصوغ سلوكه اليومي وتحدد له سلسلة ولاءات تتراتب وفق سلم أولويات تنتهي في الدولة. فالدولة أخيرا وليست أولا. ولهذا تصاب أجهزتها ومؤسساتها بالشلل حين يتعرض البلد للخطر أو تتصارع طوائفه على المواقع والمقاعد. فالدولة ضعيفة وهي الطرف المستباح حين تدب المنازعات بين أهلها.
هذه واحدة من مشكلات لبنان. والدولة في هذا المعنى هي نتاج تلك المشكلات وصانعة تاريخية لها. فهي تنتج وتعيد تنظيم آليات تسهم في بعثرة الولاءات وتوزيعها على مصادر أيديولوجية مختلفة ومنابت اجتماعية لا تتفق بالضرورة على هوية جامعة. فالدولة في لبنان عدوة نفسها وهي أحيانا تلعب دور الراعي للتعارضات بين اللبنانيين وتسهم في انتاج الكثير من الطائفيين. ولهذا السبب التنظيمي كان الطائفيون في لبنان أكثر من اللبنانيين وخصوصا في اللحظات المقلقة حين تتنافس الطوائف على إثبات وزنها في الحياة السياسية العامة.
الطوائف والمذاهب والمناطق والعشائر والعائلات السياسية في لبنان تصنع تاريخ البلد، والدولة مجرد جهاز يدير اللعبة وينظم سير الجماعات حتى لا تقع الاصطدامات. وإذا وقعت تستقيل الدولة من وظيفتها تاركة الساحة للزعامات السياسية تتدبر شئونها إلى أن تتفق من جديد على إطار يعيد تنظيم المصالح في دائرة التوافق والمناصفة والمثالثة والمحاصصة.
النظام الانتخابي في لبنان هو أفضل صورة عن هذا البلد المركب من 18 طائفة والمعقد في تداخلاته وتشعباته الأهلية. فالنظام الانتخابي هو أقرب إلى تلك الشبكة الإدارية التي تعكس منظومة العلاقات المشتتة الولاءات من أقصاه إلى أقصاه.
هناك الطوائف، ثم طوائف كبيرة وصغيرة، ثم مذاهب الطوائف، ثم مناطق المذاهب وانتشارها، ثم العشائر والأسر السياسية التي تتحكم بمفاتيح الكتل التصويتية. وبكلام أوضح، هناك طوائف مسلمة وطوائف مسيحية. وفي كل طائفة هناك مذاهب تنتمي إليها الجماعات الأهلية. ففي الجانب المسلم هناك السني والشيعي والدرزي والعلوي. وفي الجانب المسيحي هناك الماروني والكاثوليكي والأرثوذكسي ومجموعة من الأقليات تتشكل من مزيج قومي - مسيحي "مثل الأرمن الكاثوليك والأرمن الأرثوذكس، أو السريان الكاثوليك والسريان الأرثوذكس".
كل هذا التنوع الطائفي والمذهبي وما بينهما وما بعدهما يجب أن يتمثل في الندوة النيابية. فالنظام الانتخابي وزع المقاعد "128 مقعدا" على تلك الشبكة الأهلية من المجموعات المنتشرة أو المتموضعة في محافظات وأقضية.
وحتى تستقيم العدالة الطائفية وزع النظام الانتخابي المقاعد بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين "64 مقابل 64". وبعد المناصفة تأتي المثالثة "سني، شيعي، درزي مقابل ماروني، كاثوليكي، أرثوذكسي". وبما أن التوازن بين المذاهب ليس متعادلا، لجأ النظام الانتخابي إلى ابتكار النسبية بين الأكثريات والأقليات. واتفق على تسمية توزيع المقاعد بنظام المحاصصة. فلكل طائفة حصتها، ولكل مذهب حصته، ولكل منطقة حصتها. والمحاصصة هنا تخضع بدورها إلى موازنات سكانية دقيقة تعيد توزيع المقاعد وفق اعتبارات محلية تأخذ في الاعتبار المحافظات والأقضية. وبما أن لكل محافظة أو قضاء أرجحية طائفية أو مذهبية معينة كان لابد أن تتأثر نتائج التمثيل النسبي "النيابي" بتلك الأرجحية المناطقية. وهذا ما أدى إلى نمو نوع من الاعتراض على الدوائر الكبيرة بسبب تأثير الكتلة التصويتية لفريق معين على خيارات المجموعات الصغيرة نسبيا التي تعيش في هذا القضاء أو تلك المحافظة.
هذه الألوان الطائفية - المذهبية - المناطقية، مضافا إليها أطياف العشائر والأسر السياسية التقليدية، لا تعكسها الفضائيات اللبنانية. فالصورة التي تظهر على الشاشات هي غير تلك التي نقرأ تفصيلاتها العجيبة الغريبة وغير المفهومة عند الكثير من المشاهدين. فالمشهد الواقعي غير وهو يخالف تلك المظاهر التي تخدع وتعطي فكرة حداثية عن تركيبة متخلفة سياسيا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1020 - الثلثاء 21 يونيو 2005م الموافق 14 جمادى الأولى 1426هـ