قبل سنوات طويلة، شارك أحد الأطباء العراقيين، ويدعى قتيبة آل الشيخ نوري، في مؤتمر طبي بلندن، وهناك سألوه عما أضافه العراقيون المعاصرون من جديد إلى تراث أجدادهم يوم كانت بغداد عاصمة الدنيا، وموئل العلم والطب، فأجاب: نعم، لقد اخترعوا جهازا يدخل من أسفل الجسد، يخترق الأمعاء والمعدة، ويصعد إلى البلعوم لينتزعوا به الحنجرة باستخدام الكهرباء، فقيل له: ولماذا كل هذا اللف والدوران؟ ألا يمكن إزالتها من الفم مباشرة؟ فأجاب: ومن الذي يمكن أن يفتح فمه في العراق؟ في الاتحاد السوفياتي السابق أيضا، ألقى أحد الرفاق خطبة طويلة أشاد فيها بسياسة الحزب الشيوعي الحاكم، ثم تشجع وجازف بفتح فمه بالسؤال عن سر اختفاء البطاطس من السوق على رغم كل ما يقال عن ازدهار البلد، فوعده أمين سر الحزب بالإجابة في الاجتماع المقبل. وفي الاجتماع الموعود، اختفى رفيقنا المدافع عن حقوق البطاطس، ووقف مكانه رفيق آخر يلقي خطبة بليغة في تمجيد الحزب الحاكم كالعادة، ثم التفت إلى مقعد صاحبه الفارغ، وتساءل: أين الرفيق الذي سأل عن سر اختفاء البطاطس، فهو الآخر اختفى منذ ذلك الحين!
ولا أدري ماذا كان مصير الرفيق الذي تساءل عن مصير زميله المختفي... هل اختفى معه كما اختفى قبلهما البطاطس من السوق؟!
إلا انه بسبب هذه السياسة المنغلقة وأمثالها، تقهقر الاتحاد السوفياتي من مقام الدولة العظمى إلى دولة تستجدي المعونات الاقتصاية من الغرب. وبسبب مثل هذه السياسة، دفع العراق لعقود طويلة ولايزال حتى اليوم يدفع الثمن من دماء أبنائه وأشلاء مواطنيه. من يتساءل يختفي أو يشوه أو ينفى من الأرض... فعلى الجميع أن يبلعوا ألسنتهم ويسكتوا وإلا كان مصيرهم مصير البطاطس المسكين!
لكن هذه الطريقة لا تحل مشكلات البلدان، ولا تنقذها من الأوضاع الصعبة، ولا تخرج الأوطان من أزماتها.
إذا أردنا أن نبحث عن حلول للمشكلات المعلقة، فعلينا أن نفتح الباب للمصارحة والمكاشفة ونعمل على الوصول إلى حلول تخرج البلد من عنق الزجاجة. لا يكفي أن يتكلم الناس ويحتجوا، "وقولوا ما شئتم وسنفعل ما نشاء"، فمن شأن هذه السياسة أن توصل الأمور إلى حافة الهاوية، وتؤجج النفوس وتشحنها بالغضب والقرف، والأخطر أنها تقتل لديهم الأمل في مستقبل أفضل، وهو ما يعيش عليه الناس في البلدان المأزومة ولولاه لفضل الكثيرون الموت على الحياة.
أزماتنا واضحة، وسبل حلها تحتاج إلى شجاعة، والكثير منها يتطلب قرارات جذرية حاسمة للانتقال من هذا الوضع الجامد المتذبذب المنذر بالآلام. لا تطالب مواطنا باحترام القانون إذا كان هناك شخص آخر لا يحترمه فقط لأن "ظهره قوي". لا تطالب مواطنا باحترام إشارة المرور إذا كان هناك من يسوق سيارته من دون لوحة سياقة رسمية صادرة عن إدارة المرور. لا تطالب المواطن العادي بأن يحافظ على بيئته وعدم رمي كيس ورقي من نافذة سيارته إذا كان هناك من يردم البحر ويستولي على السواحل العامة ويدمر الخلجان الصغيرة.
المواطنة حقوق وواجبات، ومن الظلم أن يطبق القانون على بعض الناس ويرفع القلم عن البعض الآخر فقط لأنهم "متنفذون".
إننا في البحرين نواجه مشكلات بنيوية عميقة، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، تراكمت عبر عقود، بسبب الإهمال وعدم الجدية في البحث عن حلول، وهكذا ندفع الثمن، وكلما تأخرنا عن الاعتراف بالمشكلة والهروب من مواجهة استحقاقاتها، وكلما استمرت حملات التضليل على ما يجري وتصويره على غير حقيقته، زادت الآلام في مرحلة المخاض.
في الماضي كان الجميع يسمع ويرى، وكان قانون "أمن الدولة" الجميل، يفرض على الناس أن يبلعوا ألسنتهم ويسكتوا. وكان على الصحافة أن تصفق وتهلل فقط، مكتفية بدور الشاهد الأبكم. أما اليوم، فمع ما أتاحته أجواء الانفتاح السياسي وهامش الحرية التي تتيح التحدث عن جزء كبير من معاناة المواطن لم يعد يجدي نشر صور ملتقطة من أعلى عليين للمسيرات السلمية في إخفاء أوجاعنا ومشكلاتنا المؤلمة التي تنتظر الحلول والعلاج. إذا لم تصدقوا، اعيدوا قراءة تجربتنا منذ ثلاثة عقود بآلامها ومخاضاتها المتعسرة، واقرأوا تجارب الآخرين... وتيقنوا أن سياسة الخازوق ليست هي الطريق الأقصر لعلاج التهابات الحنجرة
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1019 - الإثنين 20 يونيو 2005م الموافق 13 جمادى الأولى 1426هـ