الصفعة التي تلقاها الجنرال في معركة انتخابات محافظة الشمال اللبناني كانت ضرورية وأقوى من المطلوب. ضرورية لأنها وجهت رسالة تحذير نبهت فيها إلى مخاطر خطاب أهوج استخدمه "العائد من باريس"، وأثار فيه الغرائز والعصبيات والاستقطابات "الشعبوية" في بلد طائفي المزاج والأهواء. وأقوى من المطلوب لأن غبار معركة الشمال انكشف عن تشنجات طائفية لا تساعد الدولة على النهوض مجددا من تحت انقاض حرب الانتخابات إلا إذا تداركت القوى الواعية "أو ما تبقى منها" الأمر وسارعت إلى تجميع بقايا خطاب معتدل انهزم في الكثير من المربعات "المناطق" اللبنانية.
لبنان "الدولة والهوية الجامعة" لا يقوم على قواعد التطرف. فالتطرف يلغي "الوحدة الوطنية" الضعيفة أصلا، ويعزز عناصر وحدات طائفية متموضعة مناطقيا من شماله إلى جنوبه.
ما حصل في الشمال كان أكثر من المطلوب، وأعطى ردا معكوسا على خطاب تحريضي/ أهوج قاده الجنرال "العائد" ضد خصومه السياسيين في المعارضة المسيحية "المعتدلة" ونواب "قرنة شهوان". فالرد جاء قويا وانقلب عليه. وهذا النوع من الأجوبة يعرقل إمكانات إعادة تأسيس دولة متوازنة تمثل كل الفئات والشرائح بما فيها تلك القوى "العائلات السياسية" التي تتمتع بنسبة معقولة من التمثيل الشعبي.
منطق مئة في المئة "زي ما هيي" يجوز استخدامه في حالات التحشيد الانتخابي "الطائفي إجمالا" إلا أنه يعطل إمكانات نمو أو تطوير عقلية "تسووية" يحتاج إليها لبنان حتى يحصن مصالح فئات مختلفة اجتمعت جغرافيا في دائرة سياسية واحدة. فكرة المئة في المئة ليست سياسية وهي أصلا ضد السياسية وخصوصا في بلد متنوع الطوائف والمذاهب وتقوده عائلات سياسية تقليدية احتكرت التمثيل النيابي لفترات ممتدة من العقود.
ما حصل في الشمال وجه رسالة قوية إلى جنرال ركبه الغرور بعد نجاحه في إسقاط رموز معتدلة في الجزء الشمالي من جبل لبنان. إلا أن عناوين الرسالة كانت زائدة عن اللزوم لأنها اطاحت بعائلات تتمتع بنسبة عالية من التمثيل السياسي "الشعبي" في مناطقها ومدنها. وما حصل لعائلات سياسية في الجبل مثل آل أده وسعيد وموارنة كسروان وآل لحود في المتن وآل ارسلان في عالية تكرر في الشمال حين فشل سليمان فرنجيه "الحفيد" في زغرتا وآل كرامي في طرابلس في تحقيق النسبة المطلوبة لمواجهة الموجة المرتدة على خطاب الجنرال الأهوج. فهذه العائلات السياسية العريقة كانت ضحية التطرف الذي قاده "العائد" ضد خصومه السياسيين والتيارات المعتدلة في المناطق المسيحية.
الفعل وردة الفعل أسهما في إنتاج معادلة سيئة. ومثل هذا الأمر يثير سلبيات ويقلل كثيرا من الايجابيات في بلد يحتاج إلى خطاب "تسووي" تقوم عناصره على الاعتدال ونبذ التطرف. فالدولة في لبنان توافقية ومشكلتها الأساس أنها تشكل الطرف الاضعف في المعادلة الداخلية "الطائفية إجمالا" المتموضعة سياسيا في مختلف المناطق. وهذا الضعف السياسي تتحمل الدولة "النظام الطائفي" مسئولية إنتاجه وتعزيزه يوميا من خلال آليات إدارية وتوظيفية تنتج علاقات تؤسس "اللبناني" على منطق طائفي وبعيدا عن الوطنية.
الدولة في لبنان تشبه كثيرا تلك التي حذر منها ابن خلدون في "مقدمته". فهو أشار مرارا إلى أن الدولة تضعف إذا كثرت فيها العصبيات "الطوائف في لبنان" وتقوى إذا قلت فيها العصبيات. وهذا الأمر النظري/ التاريخي ينطبق بحدوده القصوى أحيانا على لبنان "الهوية الجامعة" ودولته المنقسمة أصلا على مراكز قوى موزعة مناطقيا على طوائف ومذاهب.
ما حصل في الشمال فيه سلبيات كثيرة تشبه كثيرا تلك السلبيات التي ظهرت في انتخابات الجزء المسيحي من جبل لبنان حين اطاح الجنرال بانقلابه السياسي برموز "قرنة شهوان" المعتدلة، ولكنه - وهذه هي رسالة الشمال القوية أكثر من المطلوب - فشل في اختراق مناطق الطوائف الأخرى.
الآن انتهت حرب الانتخابات وخرجت الكتل النيابية لترسم شعبيا خطوط تماس أهلية بين الطوائف. والمطلوب الآن حماية البلد من تداعيات خطيرة تنتظره وهذا يبدأ بمنع انتقال الحرب الباردة إلى ساخنة... وإلا سيدخل لبنان مجددا في دائرة لاستهداف الدولي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1019 - الإثنين 20 يونيو 2005م الموافق 13 جمادى الأولى 1426هـ