لم يصدق نفسه ذلك الحاج الرأس رماني، وأخذ يهذي عندما رأى "هوريه" في "الغبة" بعد أن كان على "السيف"، وقام يردد كلمات مسموعة للمارة: "بحر يدفن بحر. .. بحر يدفن بحر، كيف بحر يدفن بحر؟!".
قال له أحدهم: اشبيك حجي؟! "العدلي" شافهم يدفنون وخاف على "هوريك"، وراح "شطناه" إبعيد في "الغبة" حق لا يدفنوه "ويي" السيف مال الفريق.
رد الحجي: بس اشلون "بحر يدفن بحر"؟!
لا حجي، البحر ما دفن البحر... هذا "لمسلسل!"، أكيد تعرفه "لمسلسل؟". ألم تسمع الأغنية الجديدة التي غناها باسط البوسطة عنه ويقول فيها: "جانه لمسلسل جانه
جانه وأكل عشانه... جاهم لمسلسل جاهم... جاهم وأكل عشاهم... محد يقدر يقربه
ويلمسه وضربه...فيده عصاة عوده...
وتنتهي الأغنية بـاختراع من عندنا للقضاء على هذا العفريت "لمسلسل" نقول فيها "المنجل فيد أمي "والمطرقة عند عمي" واللوزة والرمانة".
ولمسلسل هذا عفريت من عفاريت البحرين، ويبدو أنه اختراع رأس رماني، شأنه شأن "طنطل العراقي" الذي يسكن في الجنوب بحسب الحكايات العراقية، فـ "طنطل" قبيح الوجه، ضخم الجثة والقامة، وله رجلان كبيرتان، ومن فرط ضخامته يضع رجلا على ضفة النهر والثانية على الضفة الأخرى ويلتهم كل شيء أمامه، فيخيف الناس، والناس تهابه وترتعد كلما سمعت سيرته. أما "لمسلسل البحريني" فيتشكل على شكل قطعة قطن، أو عود كبريت، ويتحول بقدرة الخيال الواسع عند الناس، إلى وحش مفترس يلتهم المارة، أو يسكن البحار على هيئة "حالة رملية" أو جزيرة ليبتلع من يرتادها! وأجدادنا كانوا يخيفون الأطفال بـ "لمسلسل"، وكأنه حقيقة واقعية جعلتهم يخافون منه أكثر من الأطفال الذين يمنعونهم من حمل قطنة مرمية في الشارع، أو مرمية في بيت الله، فـ "لمسلسل" يدخل في كل مكان لينقض على فريسته، والتي عادة ما تكون من بسطاء الناس الذين تستخدمهم الدول في "الشرق الحبيب" وقودا لحروبها، التي تشتري أسلحتها بقوت شعوبها. ولأن الحديث لا يجري على "لمسلسل البحراني ولا طنطل العراقي"، بل عن "الدافنين" وعن "بحر يدفن بحر" ليلتهم أو يلتهموا "الدافنون"، رزق الفقراء ومتعهم وكيانهم وتكويناتهم، وعشقهم وحبهم، وملذاتهم الباقية المتبقية، إن بقي منها شيء، إلى ما إلى ذلك من عشق مفرط في قراءة الروحانيات، وإن كان البعض يحب قراءتها، لكنه في عداء دائم معها. في السبعينات قام أهالي رأس الرمان بالتعاون مع نادي العربي، وأهالي "الحورة" التي هي الأخرى دفن بحرها، بعرض مسرحية تسمى "حكاية بحار" كتب شعرها العامي آنذاك الشاعر محمد أمين، يقول فيها خلال حوار بين البحار والنوخذه: "تجيني تنفض اغباري / وأنا بنياتي مب داري/ يتشم سويت حصانا طين/ نهبتنا والحتشي اجباري / وتشم بعتنه بمذله وهين/ يشهد بالحتشي الباري /نواخذتنا خذاها الحور/ لا ترحم ولا الداري ....".
زمان، كانت الهوية الرأس رمانية معروفة، وعندما يدعي شخص من أن أصوله رأس رمانية، يقال له على الفور: اكشف عن رجلك! فإذا كانت رجله صافية سليمة من دون خدوش أو "خروم"، فالحكم عليه بعدم رأس رمانيته، أما إذا ثبت العكس، فإنه رأس رماني أصيل، إذ لا يمكن أن يكون من سكان هذا الحي، من دون أن يمس رجليه "جير أو خالوف، أو خدوش من فشت"، أو حتى من زجاجة "صديقة للبيئة" تجرح رجله وتبقي أثرا على رأس رمانيته! أما الآن وبعد ردم بحرهم فهويتهم ضاعت، ولم يعد يوجد إلا القليل ممن يرتادون البحر، ويذهبون إليه بسيارات تنقلهم إلى طراداتهم من دون أن تمس أقدامهم قطرة ماء، ولا توجد آثار أقدامهم على المياه ولا على السيف. مادام "البحر دفن بحر" بواسطة ناس "لا ترحم ولا الداري"، وبات لا يمكن إرجاع السيف إلى ما كان عليه، فإن حالات الدور "جزر فوكلند حاليا" تنطبق عليها مقولة الحجي الرأس رماني: "بحر يدفن بحر"، إذ تم شق ممر للسفن التجارية الضخمة، وبرمال البحر تكونت جزر، وكان الأهالي يذهبون لهذه الجزر في رحلات بحرية حاملين أمتعتهم وحاجياتهم، وطبيخهم في نزهة عائلية بحرية، وبقدرة قادر، بعد أن فطنت "الحكومة أو أحد المتنفذين"، إذ إن "المعلومات الأكيدة مازالت ناقصة، فلا نعرف أن جزر فوكلند خاصة أم عامة، بعد أن فرضت رسوم على كل رجل تطأ تراب "فوكلن" - فأقدام الأطفال بنصف دينار، وللكبار بدينار، وعلى هذه الجزيرة لا يوجد تمييز بين المواطن والأجنبي السائح، فهم سواسية في الدفع، وممنوع عليهم تناول طعامهم الخاص، وحتى قنينة الماء، فمن يريد أن يشرب ماء، فعليه التوجه لشرائه من الباعة على هذه الجزر، وإلا مات عطشا "...".
إذا، "نظرية" الحجي الرأس رماني: "بحر يدفن بحر"، قد طبقت على الواقع، وأصبحت حقيقة، وما الحفارات البحرية، وشافطات الرمال المخربة للبيئة، والتي بحسب الخبراء، كانت سببا في تجفيف منابع المياه العذبة في "عذاري وكوكب الشيخ، والسفاحية والخضراء، وأم شعوم، وغيرها... وغيرها"، إلا دليل على صدق نظريته بعفويتها، ولكن، وبعد الاكتشاف الرأس رماني: "بحر يدفن بحر"، أمن العدل والحكمة أن يبقى أهالي السواحل وأحيائهم الفقيرة على حالهم وأكثر فقرا وحرمانا، من بقية الأحياء التي بجوارهم، أو البعيدة عنهم من دون خدمات تذكر أو حتى حديقة لأطفالهم، أو ممشى لرياضييهم كما هو موجود في شارع الاستقلال بمدينة عيسى بكامل معداته، أو مركز ثقافي لأبنائهم، أم أن حكومتنا الحبيبة... لا خيل عندها تهديها للمستضعفين... ولا مال؟
العدد 1018 - الأحد 19 يونيو 2005م الموافق 12 جمادى الأولى 1426هـ