تشير كل التوقعات اللبنانية إلى أن الجولة الأخيرة من حرب الانتخابات التي ستعقد غدا في محافظة الشمال ستشهد استقطابات طائفية بين تيار الجنرال "العائد" وتحالف القوى السياسية الذي نجح في ضم مجموعات غير متفقة إيديولوجيا ولكنها تؤمن بالمصالحة والتسوية وبناء دولة متوازنة. فتيار ميشال عون نجح في حشد المسيحيين حوله باسم "الوطني الحر" والقرار المسيحي المستقل، وكذلك نجحت القوى المضادة المسلمة في حشد الكتلة السنية المتخوفة من خطاب الجنرال الشعبوي الأهوج. وبذلك أصبحت المعركة طائفية "سنية - مارونية" على رغم تأكيد الطرفين وطنية البرنامج والشعارات.
في لبنان الكل يعرف الكل والمفردات لا تخدع. فهناك تجارب كثيرة مشابهة عرفها هذا البلد الصغير واتضح لاحقا أن المصطلحات تخفي دائما مجموعة مصالح لا صلة سياسية لها بالمفردة. فالمفردات مجرد كلمات تقال وهي تعني ولا تعني شيئا. ومصطلحات مثل "الوطني" و"الحر" تتشابه كثيرا مع "التقدمي" و"اليساري" و"العلماني" و"الاشتراكي" وحتى "الشيوعي". فهذه الكلمات لا تعكس بالضرورة مصالح فئات محددة اقتصاديا، وإنما تعبر عن واقع حراك تشكيلات اجتماعية "طائفية إجمالا". فالتشكيلات الاجتماعية تضم تجمعات فئوية "مذهبية" هي أقوى بكثير في حراكها السياسي من فكرة الطبقات المتماسكة اقتصاديا. فالطبقة في لبنان ضعيفة وإذا وجدت فهي منقسمة فئويا "طائفيا" بين تيارات تنتمي إلى مناطق.
المشكلة السياسية في لبنان أن هذا البلد لا يقوى على احتمال أو رفع الأفكار المتطرفة والسياسات المتصادمة مع الاعتدال. والمشكلة المضادة أيضا أن طوائف لبنان لا تتحرك إلا بالخطابات الحماسية والتحريضية. وبين مشكلة بلد "وطن" لا يتحمل التطرف لأنه ينقسم بسرعة، ومشكلات طوائف تميل إلى لغة التعصب والتحريض ضاعت "الفكرة اللبنانية" وتاهت معها الدولة. حتى الدولة لاتزال مجرد فكرة ضعيفة والانتماء إليها يقتصر وبحدود نسبية ضئيلة على موظفي الإدارات والمؤسسات الرسمية في وقت يبدو الانتماء إلى الطائفة والمذهب والمنطقة هو الأقوى. فالدولة في لبنان ضعيفة وجذورها الاجتماعية محدودة وقليلة العمق قياسا بتاريخ الطوائف.
هذا الوضع الاجتماعي لتركيبة لبنان الطائفية يفسر إلى حد ما تلك التشنجات التي تصدر عن فئات سياسية متناحرة أو متنافرة في مصالحها. وما حصل بعد عودة الجنرال يعطي فكرة موجزة عن سلبيات خطاب شعبوي وأهوج. فالعائد طرح سلسلة أفكار تحريضية لكسب الصوت المسيحي ضد خصومه المعتدلين من "قرنة شهوان" فكانت النتيجة انه استنفر العصبيات واستفز المشاعر المذهبية وأحدث سلسلة استقطابات طائفية مضادة وأثار مخاوف دينية عند المسلمين. وتعزز قلق المسلمين من ذاك "الوطني الحر" أن كلامه جاء ليصب الزيت على نار بيان "مجلس المطارنة الموارنة". فذاك البيان أشعل فتيل الانقسام حين طرح بدعة "المسلم يصوت للمسلم" و"المسيحي يصوت للمسيحي" مرفقا وعيده بتهديد الجناح الآخر من اللبنانيين بقوله "أعذر من أنذر". فالعائد جاء إلى بلد شهد للمرة الأولى في تاريخه مظاهرة جمعت كل التيارات والفئات الإيديولوجية على مختلف منابتها الاجتماعية وبدأ منذ وصوله بتفخيخ تلك "الوحدة" بإطلاق شعارات متطرفة تشكك برموز المسيحيين وتبعيتها للشارع المسلم.
"العائد" قسم معركته إلى نصفين: الأول إسقاط رموز المعارضة المسيحية وشطبها من المعادلة اللبنانية. والثاني تنظيم هجوم مضاد ضد رموز المعارضة المسلمة وإلغاء تمثيلها السياسي في المجلس.
في الشق الأول نجح "العائد" في الانتقام ومعاقبة رموز تيار كان في دائرة الخطر حين هددت شخصياته الوطنية بالقتل والاغتيال في وقت كان الجنرال في باريس. وفي الشق الثاني فشل الجنرال في معركته نظرا إلى الاستقطابات الطائفية التي أثارها خطابه الأهوج.
غدا ستنتهي الجولة الأخيرة من الانتخابات اللبنانية في ظل أجواء مشحونة بالتوتر السياسي "الطائفي". وبغض النظر عن النتيجة فإن الواقع يشير إلى وجود نزعات متشنجة استفاقت من "نومها" على وقع خبطات وضربات "العائد". فالجنرال جيش الطائفية باسم "الوطني الحر" ضد المعتدلين المسيحيين مثيرا قلق المسلمين وكل الفئات الواعية التي لا تخدعها الكلمات. فكلمة الوطني مجرد مصطلح، وفهمت بأنها غطاء "طلاء" لمفردة "المسيحي". فهذا على الأقل ما فهمه اللبنانيون على أصنافهم من تلك العشوائية "الشعبوية". ويبدو أن هذا لم يفهمه الجنرال... "العائد" إلى الحرب
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1016 - الجمعة 17 يونيو 2005م الموافق 10 جمادى الأولى 1426هـ