مع الإمام الرضا "ع" في خاتمة الخصال، اذ يتابع حديثه فيقول: "والعاشرة ما العاشرة؟".
قيل له: ما هي؟ قال "ع": "لا يرى أحدا الا قال: هو خير مني وأتقى... انما الناس رجلان: رجل خير منه وأتقى، ورجل شر منه وأدنى، فاذا لقي الذي هو شر منه وأدنى قال: لعل خير هذا باطن وهو خير له، وخيري ظاهر وهو شر لي. واذا رأى الذي هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به، فإذا فعل ذلك، فقد علا مجده، وطاب خيره، وحسن ذكره، وساد أهل زمانه".
وهكذا تضعنا هذه الكلمات الربانية المضيئة أمام "نكران الذات" كقيمة أخلاقية كبيرة تعبر عن درجة عالية من السمو الروحي والارتقاء الايماني.
ان التحرر من "أنانيات الذات" ليس أمرا سهلا، فهو في حاجة الى ترويض دائم، وفي حاجة الى إرادة قوية، وقبل ذلك في حاجة الى إيمان صادق.
"الأنانية" ظاهرة سلوكية خطيرة بما تحمله من رغبة متأصلة في الغاء الآخر، ومن نزعة مأسورة الى حب البروز والشهرة، والتعالي على الآخرين. ومن أبرز مظاهر "الأنانية" صفة العجب، وصفة التكبر، هاتان الصفتان الذميمتان القبيحتان.
ما معنى العجب؟ وما معنى التكبر؟ وهل يوجد فرق بين العنوانين؟
العجب: هو استعظام النفس من خلال بعض الصفات والأعمال "العلم، المال، الموقع الاجتماعي، العبادة...". وقد وردت روايات كثيرة تؤكد مقت الله تعالى لهذه الظاهرة، قال رسول الله "ص" "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع واعجاب المرء بنفسه". وقال "ص": "لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو اكبر من ذلك: العجب العجب".
ان يمارس الانسان عبادة فيشعر بالزهو والمنة على الله سبحانه وبعبادته، وانه أدى لربه كامل حقه، هذا الشعور من أخطر المحبطات لثواب العبادة. وننبه هنا الى ان مجرد السرور بالعبادة والطاعة لا يعد من العجب ولا تبطل به العبادة، العجب استعظام العمل والطاعة، واحساس بالمنة على الله سبحانه.
قال الله تعالى مخاطبا نبيه داوود "ع": "يا داوود بشر المذنبين وأنذر الصديقين، قال: كيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين؟ قال الله سبحانه: بشر المذنبين أني أقبل التوبة وأعفو عن الذنب، وأنذر الصديقين ألا يعجبوا بأعمالهم، فانه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك".
وقال الامام الباقر "ع" "دخل رجلان المسجد، أحدهما عابد، والآخر فاسق، فخرجا من المسجد والفاسق صديق، والعابد فاسق، وذلك انه يدخل العابد المسجد مدلا بعبادته، فتكون فكرته في ذلك، وتكون فكرة الفاسق في الندم على فسقه ويستغفر الله مما صنع من الذنوب".
وأما "التكبر" فهو الشعور بالاستعلاء على الغير، واظهار ذلك عمليا، هناك "كبر"، وهناك "تكبر" الأول: مجرد الشعور بالاستعلاء على الغير من دون اظهار ذلك عمليا، والثاني: الشعور بالاستعلاء على الغير مع اظهار ذلك عمليا.
ما الفرق بين العجب والتكبر؟
العجب: هو استعظام النفس من دون الشعور بالاستعلاء على الغير، والتكبر: شعور بالاستعلاء على الغير، في التكبر يوجد طرفان: متكبر ومتكبر عليه وفي العجب يوجد طرف واحد: المعجب بنفسه، والآيات والروايات الذامة للتكبر كثيرة:
قال الله تعالى: "كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار" "غافر: 35"، وقال تعالى: "ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين" "الزمر:72".
وقال رسول الله "ص": "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر"، وقال "ص" "قال الله: الكبرياء ردائي والعظمة ازاري فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في جهنم"، وقال "ص" "ان أبغضكم الينا، وأبعدكم منا في الآخرة: الثرثارون، المتشدقون، المتفيقهون "أي المتكبرون"".
نعود الى كلمات الامام الرضا "ع" قال: "العاشرة ما العاشرة؟"، قيل له: ما هي؟ قال "ع": "لا يرى احدا الا قال: هو خير مني واتقى".
هذا الانسان قتل في نفسه "أنانية الذات" وشعور الاستعظام، واحساس الاستعلاء، فلم يعد يرى أحدا الا وهو خير منه وأتقى... كم من الناس يملكون هذا المستوى من الاستعلاء النفسي، وهذا المستوى من نكران الذات؟
الواقع يبرهن على ان هذا النمط من الناس قليلون قليلون.
يتابع الامام الرضا "ع" كلماته فيقول: "انما الناس رجلان "أي بحسب الواقع والحقيقة": رجل خير منه وأتقى، ورجل شر منه وأدنى، فاذا لقي الذي هو شر منه وأدنى قال: لعل خير هذا باطن وهو خير له، وخيري ظاهر وهو شر لي".
انه يحاول دائما ان يضغط على أنانيته حتى لا تنزع نفسه الى التعالى والتعاظم على الآخرين، قد يلتقي انسانا يشير ظاهره إلى انه شر منه وأدنى، غير انه يبقى يتهم نفسه، ويبحث عن مرجحات تعطي الآخر افضلية، وان كان ظاهره يوحي بأنه شر منه وأدنى، كون هذا الآخر قد يملك من الخصائص والأعمال المستورة ما تجعله أفضل منه، فبعض الناس يكون باطنهم أكبر من ظاهرهم، وبحسب الحديث "من كان باطنه أكبر من ظاهره ثقل ميزانه يوم الحساب".
ثم يتجه الى نفسه ليخاطبها بألا تغتر من ظاهر قد لا يوافقه باطن، وبحسب الحديث "من كان ظاهره أكبر من باطنه خف ميزانه يوم الحساب".
ويستمر الإمام في حديثه فيقول: "واذا رأى الذي هو خير منه وأتقى تواضع له ليلتحق به...". كثيرون يصعب عليهم ان يعترفوا للآخرين بالفضل والمنزلة والمكانة، انها الأنانية المقيتة ونزعة البروز والظهور. وأما المؤمن الذي تسامت نفسه وأصبح مشدودا الى جمال الله وجلاله، ولم يعد مأسورا الى "أنانيات الذات" فهو متواضع كل التواضع لأهل الفضل، يعترف لهم بالمكانة والمنزلة متمنيا اللحاق بهم، "فاذا فعل "المؤمن" ذلك: فقد علا مجده، وطاب خيره، وحسن ذكره، وساد أهل زمانه...".
زيارة العتبات المقدسة رحلة إيمانية
مع بداية الصيف وعطلة المدارس تتجه الكثير من الأسر الى السفر خارج البلاد، ويتخذ هذا السفر اشكالا متعددة:
1- السفر الذي يهدف الى الراحة والاستجمام غير انه ينطلق في الاجواء المحرمة والفاسدة والفاسقة، وهذا اللون من السفر محرم في الاسلام بلا اشكال.
2- السفر الذي يهدف الى الراحة والاستجمام غير انه ينطلق في الاجواء النظيفة الخالية من كل أشكال المعاصي والمحرمات، وهذا اللون من السفر مباح ومشروع.
جاء في الحديث: "لا ينبغي للرجل العاقل ان يكون ضاعنا "يعني مسافرا" الا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو تزود لمعاد، أو لذة في غير محرم...".
3- السفر الذي يأخذ طابعا دينيا: ومن أمثلة ذلك السفر الى العمرة، أو السفر الى زيارة الرسول "ص"، والسفر الى زيارة العتبات المقدسة في العراق وإيران، والشام، وفي أي مكان.
هذا اللون من السفر رحلة إيمانية روحية ولا مانع ان تمازجها رغبة الراحة والاستجمام، الا ان هدفها الاساس هو زيارة الاماكن المقدسة، لما تحمله هذه الزيارة من عظيم الأجر والثواب عند الله تعالى.
ولكي تكون هذه الرحلة الايمانية الروحية ناجحة ومحققة لأهدافها الكبيرة يفترض فيها ان تتوافر على مجموعة شروط:
الشرط الأول، ان تتوافر على موجه روحي مؤهل: من الضروري ان يكون مع كل قافلة تتجه الى زيارة العتبات المقدسة مرشد وموجه روحي أو أكثر، وهذا يعطي لهذه الرحلة أجواءها الواعية والبصيرة، وينفتح بالزائرين والزائرات على الاهداف الكبيرة لزيارة العتبات المقدسة، من خلال ما يمارسه هذا الموجه والمرشد من محاضرات وأحاديث روحية وأخلاقية وثقافية وتاريخية واجتماعية، وتوجيهات فقهية.
ان غياب الموجه والمرشد يحدث فراغا كبيرا في هذه الرحلات على مستوى الاهداف والمعطيات والدلالات، وبالتالي تفقد هذه السفرات الكثير من قيمتها ومعناها.
الشرط الثاني، ان تتوافر على برنامج ناجح: فوجود البرنامج يشكل شرطا مهما لنجاح هذه الرحلة، وحتى لا تتحول الى انطلاقة غير مبرمجة، وغير مدروسة ما يفقدها نسبة كبيرة من عطاءاتها وأهدافها... ويفترض في هذا البرنامج ان يكون شاملا لمجموعة فقرات:
1- الزيارة "ضمن شروط نذكرها لاحقا".
2- الممارسات العبادية: من المحافظة على أداء الفرائض اليومية في الحرم الشريف، الاستزادة من الصلوات المندوبة بقدر الامكان، المواظبة على تلاوة القرآن، والاكثار من الأدعية والأذكار.
3- الدروس الروحية والأخلاقية.
4- المحاضرات الفكرية والثقافية.
5- الفعاليات الاجتماعية.
6- الاستجمام والترويح وبالاساليب المشروعة.
الشرط الثالث، ان تتوفر على إدارة ناجحة، ومطلوب في إدارة هذه الرحلات:
أ- الاخلاص لله تعالى، وألا تهيمن على ذهنية المسئولين والقائمين على شئون هذه السفرات الايمانية الاطماع المادية البحتة.
ب - الأخلاقية المنفتحة في التعامل مع الزائرين والزائرات.
ج - الكفاءة الادارية مما يحمي هذه الرحلات من الفوضى والارتباك والاهمال.
الشرط الرابع، توجيهات للزائرين والزائرات:
أولا: على الزائرين والزائرات ان يستحضروا في أذهانهم طيلة هذه السفرة انهم في رحلة عبادية إيمانية، ولهذا الاستحضار أثره الكبير في الاستفادة الكبيرة من هذه الرحلة المباركة.
ثانيا: المحافظة على الضوابط الشرعية، من المؤسف ان تتحرك في أجواء هذه الرحلات بعض الظواهر اللاشرعية، ومن أمثلتها: الاختلاط غير الخاضع للضوابط الشرعية، وتبادل النظرات المحرمة، وعدم الالتزام الدقيق بالستر الشرعي لدى بعض الزائرات، وربما تجاوز الامر الى علاقات محرمة بين بعض الشباب والشابات.
ان حماية اجواء هذه السفرات من كل الممارسات المحرمة، ومن كل التصرفات الشائنة مسئولية شرعية كبيرة يتحملها كل المؤمنين المخلصين الحريصين على سمعة وعلى أهداف هذه الرحلات الايمانية.
ثالثا: المحافظة على الاخلاق الاسلامية، وان تسود بين الزوار روح المحبة والصفاء والاخوة الايمانية، وروح التعاون والتكامل والتسامح، ان يعيشوا درجة عالية من الانفتاح والانبساط والشفافية، والتواضع، وروح المبادرة الى خدمة الآخرين، وقضاء حوائجهم.
رابعا: الالتزام بآداب الزيارة من الآداب الظاهرية "كالطهارة والنظافة"، والآداب المعنوية كالتهيؤ الروحي للزيارة، حرارة اللقاء وحضور القلب أثناء الزيارة، استيعاب مضامين الزيارة، التأسي والاقتداء والا كانت الزيارة فاقدة لكل معناها.
خامسا: ان يحرص الزوار على التعاطي مع جميع فقرات البرنامج المعد لهذه الرحلة، لكي يساهموا في انجاح اهدافها، وفي الاستفادة من عطاءاتها الكبيرة.
من العار كل العار
انه من العار كل العار ان يضيق بعض الناس من كلمة "الصلاة على محمد وآل محمد". هكذا تناهى الى سمعنا أن البعض في هذا البلد قد ضاق بوجود لوحات صغيرة وضعت في موقع هنا أو موقع هناك، كتب عليها عبارة "اللهم صل على محمد وآل محمد" ما دفع هذا البعض الى ازالة تلك اللوحات من بعض المواقع. ألم تؤكد نصوص القرآن وأحاديث السنة الثابتة المتواترة مسألة "الصلاة على محمد وآل محمد". جاء في صحيح البخاري "6: 489/ كتاب التفسير باب ،452 8: 434/ كتاب الدعوات - باب الصلاة على النبي "ص" في قوله تعالى: "ان الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" "الأحزاب: 56": قيل: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة عليك؟ قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل ابراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل ابراهيم انك حميد مجيد".
وجاء في صحيح مسلم "1: 305 كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي "ص": عن ابي مسعود الانصاري قال: أتانا رسول الله "ص" ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى ان نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ فسكت رسول الله "ص" حتى تمنينا انا لم نسأله، ثم قال رسول الله "ص" "قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على آل ابراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد...".
وبهذا اللفظ ورد في سنن ابن ماجه "1: 293/ ح 904". وكذلك في صحيح الترمذي "2: 352/ حديث 483". وجاء في مسند احمد بن حنبل "5: 353": عن بريدة الخزاعي قال: قلنا يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟
قال: "قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد".
وقال ابن حجر في الصواعق المحرقة "الباب 11 ف 1" ويروى عن النبي "ص" انه قال: "لا تصلوا علي الصلاة البتراء". قالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: "تقولون: اللهم صل على محمد وتمسكون، بل قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد".
وروى ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول بالاسناد الى عبدالرحمن بن ابن ليلى قال: لقيني كعب بن عجزة فقال: "الا اهدي اليك هدية سمعتها من رسول الله "ص" فقلت: بلى فأهدها الي. فقال: سألنا رسول الله "ص"، فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فقال: "قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على ابراهيم وآل ابراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على ابراهيم وآل ابراهيم انك حميد مجيد...".
ويمكن ان يقرأ: التفسير الكبير للفخر الرازي "25: 227" والمعجم الصغير للطبراني "1: 180"، والمعجم الاوسط للطبراني "3: 188"، ومصادر أخرى كثيرة.
وبعد هذا الاستعراض العاجل لهذه الروايات المدونة في أهم مصادر الحديث، يحق لنا ان نتساءل: هل ان وجود لوحات تحمل عبارة "الصلاة على محمد وآل محمد" سيشكل "استفزازا طائفيا"؟
من المعيب جدا ان يدعي ذلك أحد من المسلمين. ومن المعيب جدا ان يصنف هذا الشعار في خانة "الشعارات الطائفية". ومن المعيب جدا ان تتجه الجهات المسئولة في هذا البلد الى ازاحة أي شعار ديني يعبر عن هوية البحرين الاسلامية وعن اصالتها الدينية، وعن قيمها الروحية.
الواجب على الجهات المسئولة ان تمارس تطهيرا شاملا لشوارع هذا البلد من كل اللوحات والاعلانات التي تروج للفساد الاخلاقي، وللفسوق والفجور والدعارة ومن كل المظاهر التي تتحدى المشاعر الدينية، وتتحدى القيم الروحية، ان هذه اللوحات والاعلانات وهذه المظاهر الشائنة هي التي تشكل الاستفزاز الحقيقي لكل ابناء هذا البلد الغيارى على دينهم واسلامهم، وقيمهم وهويتهم وأصالتهم... اننا نعبر عن قلقنا الشديد تجاه أية خطوة غير مسئولة تحاول ان تضغط على الشعارات الدينية، مادامت هذه الشعارات لا تسيء لأحد، ولا تلغي احدا.
استغفر الله لي ولكم... وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمي
إقرأ أيضا لـ "السيد عبدالله الغريفي"العدد 1015 - الخميس 16 يونيو 2005م الموافق 09 جمادى الأولى 1426هـ