فاز ميشال عون على المسيحيين في "أم المعارك" وفشل في اختراق جدار المسلمين في الجزء الجنوبي من جبل لبنان. فالمعركة انتهت مناصفة بين المسيحيين والمسلمين مع فارق جوهري في الإشارات السياسية. المسيحيون أسقطوا رموز معارضتهم المعتدلة، بينما جدد المسلمون لرموز معارضتهم المعتدلة المتحالفة مع قوى مسيحية قررت الإقلاع عن سياسة التحريض الطائفي واستنفار العصبيات. وبين هذا وذاك يقف مستقبل لبنان على شفير هاوية.
ما حصل في انتخابات الأحد الماضي ليس بسيطا في رؤية البعض، بينما يراه البعض الآخر مجرد حادث عارض في مجرى السياسة "الشعبوية" التي يقودها الجنرال.
اختلاف القراءة يعود إلى تعدد التفسيرات. فهناك تفسير إيجابي لما حصل وأساسه أن القرار المسيحي أعيد توحيده في قبضة واحدة بعد أن تشتت نتيجة تنوع منابت ومواقع نواب "قرنة شهوان". وهناك تفسير سلبي لما حصل وأساسه أن القرار المسيحي أعيد توحيده على قاعدة طائفية لا وطنية انقلبت على تلك التظاهرة التي احتشدت في ساحة الشهداء بتاريخ 14 مارس/ آذار الماضي.
الانقلاب على ذاك "اليوم الجميل" في تاريخ لبنان الحديث وجه رسالة قاسية إلى كل المراهنين على وجود "فكرة لبنانية" تجمع مختلف الطوائف تحت مظلة واحدة. فذلك اليوم كما يبدو انتهى في اليوم نفسه وظهر لاحقا وكأنه سحابة ربيع في لحظة سياسية لن تتكرر ثانية. فلبنان لم يتغير وكذلك قواعد اللعبة لم تتبدل. فالطائفية أقوى من لبنان، وبالتالي ظهرت قوانين الواقع أصلب بكثير من معادلات فكرة لبنانية جميلة كافحت مرارا وفشلت دائما أمام وقع ضربات جنرالات الطوائف.
الجنرال حصد حتى الآن بفعل شعبويته "عاميته" 14 مقعدا مسيحيا، ويبدو أنه لم يكتف بهذا القدر من الانتصارات السياسية لإشباع قابليته للسيطرة على القرار المسيحي. فهو الآن يتحرك شمالا في محاولة منه لاستحداث خرق طائفي في منطقة حساسة تتوزع قواها الديموغرافية "السكانية" على كتلتين كبيرتين: سنية ومارونية.
عدد مقاعد منطقة الشمال ،28 وتعتبر جولتها الرابعة الأخيرة في جولات انتخابية شملت بيروت والجنوب والجبل والبقاع "100 مقعد"، وبها تنتهي معركة طويلة انتظرها الكثير من المراقبين في أوروبا والولايات المتحدة.
الأنظار الآن تتجه نحو الشمال لمعرفة مسار التوازنات السياسية في المجلس النيابي الجديد. ففي الشمال لا وجود للشيعة ولا للدروز، وبالتالي فإن تأثيرات حركة أمل وحزب الله والحزب الاشتراكي على مجراها التصويتي محدود للغاية. وهذا يعني في اللغة السياسية اللبنانية "الطائفية إجمالا" أن تختزل المعركة بين الكتلة التصويتية السنية التي يحتويها تيار المستقبل بقيادة سعد رفيق الحريري متحالفا مع القوات اللبنانية والكتائب وبقايا تجمع "قرنة شهوان" وغيرها من هيئات محلية، وبين كتلة تصويتية مارونية "مسيحية" يقودها سليمان فرنجية متحالفا مع تيار عون، مضافا إليهما تيارات وهيئات وزعامات سنية متضررة من نمو تيار الحريري في مناطقها.
المعركة إذا مختلطة والمقاعد المتبقية ستتوزع على الطائفتين، إلا أن منطقها السياسي يختلف بين نزعة تريد الاستئثار بالقرار المسيحي مستفيدة من ذاك الإنجاز الذي حققه عون في مواجهة المعارضة المسيحية، وبين نزعة تريد توسيع قاعدة المعارضة من خلال إدخال القوى المسيحية المتضررة من "عامية" عون لمصلحة تنويع مواقع الاعتراض على السلطة الأمنية.
طابع المعركة سياسي ويميل في جوهره إلى انقسام طائفي يراهن على القدرات التصويتية وتجييش المشاعر والعصبيات بعد حصول تلك الهزة الانتخابية في الجزء الشمالي من جبل لبنان. فعون يدفع باتجاه استنهاض الصوت الماروني "المسيحي" والاصطفاف إلى جانبه في معركة إسقاط رموز "قرنة شهوان" وعلى رأسهم بطرس حرب في البترون. والحريري يراهن على استنهاض الصوت السني ردا على تلك المخاوف التي أثارت قلق السنة بعد نجاح عون في اجتياح مقاعد المسيحيين وتحطيم القوى المعتدلة التي خاضت معاركها تحت سقف مشترك مع المسلمين. إنها معركة "جنرالات" في إطار سياسي تنافسي تهدف إلى إنهاء حرب الانتخابات وتحقيق تعادل في القوى لا يسمح بانكسار جهة لمصلحة أخرى. وهذا الاحتمال ينتظر الجواب على سؤال: هل يكرر عون فوزه على المسيحيين في الشمال وينزع عن المعارضة طابعها الوطني ويحولها إلى تكتلات مسلمة في مواجهة تكتلات "أو كتلة" مسيحية؟
المعركة حامية وكل الاحتمالات مفتوحة إلى أن تغلق صناديق الاقتراع مساء الأحد المقبل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1014 - الأربعاء 15 يونيو 2005م الموافق 08 جمادى الأولى 1426هـ