واحدة من الإضاءات الملفتة والغامرة لغابرييل غارسيا ماركيز، تضعنا أمام التفاوت في الانتباه والرصد بين إنسان وآخر، وذلك التفاوت هو الذي يتيح لنا الإنحياز لكاتب /شاعر/روائي/نحات وحتى دجال، فيما نعرض عن البقية، أو بتعبير أدق، تتقلص مساحة الإنجذاب نحو آخرين.
في تعليقه على جدار العزل العنصري الذي ما زالت "اسرائيل" ماضية في تنفيذه، أشار ماركيز الى "أن دولة "اسرائيل" لم تكتف بجدار العزل النفسي الذي أقامته قبل قيام دولتها في مواجهة الشعب الفلسطيني، بل ارتأت أن جدارا آخر كفيل بتأمين استمرار وصمود الجدار الأول، ومثل ذلك الارتئاء يكشف عن حجم المأزق الوجودي الذي تعيشه".
ما الذي تمثله الجدران في المكان؟ وما الذي تتيحه لصاحبها، هل ثمة تجاوز لحق الخصوصية في أنماط من الجدران، وهل تمثل قيمة تعد على خصوصية الآخر في حد من حدودها؟.
الإهتداء الى تحديد ملكية المكان نزعة لدى الحيوان مثلما هي لدى الإنسان، ويلاحظ أن بعض الضواري في الغابة تقوم بتلك المهمة عن طريق التبول في شكل دائرة تمنع بني جنسها من الإقتراب منها ولو كانت من ذات المجموعة، ويجسد ذلك الإجراء لبقية الفصيل وما عداه من حيوانات جدارا عازلا بمعناه المجازي، ولكنه يظل جدارا ضمن تعاطيها مع تفاصيل البيئة والظروف من حولها ، وثمة من يحددها بامتداد الصوت أو الرائحة أو النظر، بحيث كل ما يدخل ضمن امتداد تلك الحواس هو بمثابة أسوار وجدران غير مرئية.
الإنسان بدوره عرف رسم حدود الملكية أو المكان منذ أن كان في بيئته الأولى ، ولعل أكثر الأشكال وضوحا في تحديد تلك الملكية يتمثل في الكهوف التي منحتها الطبيعة قدرا من التمييز لا يقبل التشكيك فيه، على أن التجاوز ذاك ضمن بيئة واحدة وإن تحددت ورسمت معالمها لم يخل من فترات صراع واقتتال وحشي أثمر في نهاية الأمر عن قيام نوع من التفاهمات أو التحالفات الضيقة في البيئة الواحدة، وهي تحالفات شبه مؤقتة لم تحل دون الخروج عليها.
انتقال الإنسان من طور البدائية الى الإندماج في المجموعات ومن ثم المجتمعات، عمق من حاجة الإنسان الى مثل ذلك الإجراء باعتباره جزءا من الحفاظ على النظام ودرء المفاسد على مستوى الصراعات، إلا أن الحاجة تلك سرعان ما تعددت في صور انحراف فاقعة بتعمدها التجاوز ليس على مستوى الإستئثار بأكبر حيز من المكان، بل باعتبار أن البشر المحيطين بذلك المكان أو الذين هم جزء منه، أصبحوا عاجزين عن التماهي مع مجموعة امتلكت القوة والسطوة، ما ولد نظرة استعلائية في التعاطي مع من دونها.
ينطلق موقف العزل من رؤيتين: رؤيته للمكان من جهة، وبشر ذلك المكان من جهة أخرى، بحيث يبدو المكان خارج نطاق العزل معترفا بأحقيته وارتباطه ببشر هم من طبيعته وانفلاته وأحيانا عدم القدرة على السيطرة عليه، وبالتالي هو على تصادم مع طبيعة المكان الأول، الأمر الذي يمهد للرؤية الثانية المتعلقة ببشر ذلك المكان، والذين هم وضمن قناعة راسخة ليسوا من سنخ البشر الذين يعمدون الى موقف الفصل أو العزل.
ثمة توهم لخطر مصدره موضوع الفصل "البشر"، ولن يكون لجدران العزل أي مبررات لقيامها متى ما أيقن الطرف المتوهم للخطر بزواله ومن ثم زوال الرمزية الدالة على ذلك العزل. واستمرار مثل ذلك الوهم يكشف أول ما يكشف عن تقصد لوضع بشر موضوع العزل، ضمن صورة نمطية يتم ايجادها بكل تفاصيلها ومن ثم تعميمها لتصبح جزءا من ذاكرة المكان، ومتى ما أصبحت جزءا من الذاكرة، يصبح الحديث عن أي منطق للإقناع ومن ثم محو ذلك الجزء ضربا من محاولة إخضاع الطبيعة - بما في ذلك طبيعة تلك النفسية والذهنية لذلك المنطق.
"اسرائيل" انطلقت في تعاطيها مع إنسان المكان الأول معززة بتجيير الكتاب السماوي بعد تحريفه نحو وجهتها، ولن يكفيها تسوير الأرض وإقامة أكثر من جدار عازل بينها وبين الفلسطينيين، ولن يقدر لها أن تتجاوز وهم المكان وخصوصيته وانتماءها اليه، فيما الآخر ؟ من وجهة نظرها ؟ يعيش وهم المكان الأول وخصوصيته وانتماءه له، ما تراه خطرا على رمزيتها المزعومة "شعب الله المختار" بتجرؤ رمزية أرضية تتمثل في المكان الأول، وما يدل عليه من آثار لها امتدادها الرمزي الأعمق، والمتمثل في صنع التاريخ والتحكم في حركته "الآثار والرموز الدينية الداله عليه".
من جهة أخرى يمكن قراءة سور الصين العظيم ضمن ذلك السياق، اذ من السخف أن يكون العمل على سور يمتد من شاطئ نهر يالو بمقاطعة لياونينغ في الشرق، إلى جيايويقوان بمقاطعة قانسو غربا ويبلغ طوله حوالي ستة آلاف وسبعمائة كيلومترودشن في عصر الممالك المتحاربة "574 - 122 ق.م"، أنجز فقط من أجل وقف زحف القبائل المتوحشة من المغول كي لا تمتد سيطرتها وهمجيتها وخرابها الى الإمبراطورية الصينية التي لم تخل هي الأخرى من الإلحاح على تكرار وهم ومقولة امتدادها السماوي/الديني/الغيبي، وأن سلالات الأباطرة هي تجسيد حي للمغايرة على مستوى الخلق والإمكانات. مثل تلك النظرة الإستعلائية تولد عزلا نفسيا تجعله وحيد الشكل والهيئة والدين والوجود، وما عداه إما مهجنا أولا امتداد أو جذور له.
فكرة العزل الأول الذي مارسته المجتمعات الإنسانية ضد شرائح اعتبرتها خارجة على القانون، أو ربما العقل، انطلقت ولا تزال تنطلق من حماية وصون حقوق ومكتسبات الأصحاء والأسوياء منهم، وبعض من تلك المجتمعات على قدر ما انها لا شك مرت بذلك الطور، إلا انها حادت وانحرفت عنه بممارسات وسلوكات واجراءات حين أتاحت لفئة قليلة ايجاد عزلها الخاص، فبعد أن كان العزل مقتصرا على القطاع العام ، دخلت على الخط فئات عملت على دفع جانب من ذلك العزل الى حدود ملكيتها فأمكن الحديث عن عزل تابع للقطاع الخاص، بظهور ملكيات طارئة على السطح فقط لأنها امتلكت مفاتيح القوة والسطوة، اضافة الى امتلاكها للمداخل والأدوات التي تجعل من القانون شاهدا لم ير شيئا ما دامت اللازمة القانونية حاضرة ويبدو أنها ستظل مؤبدة "يبقى الحال على ما هو عليه، وعلى المتضرر اللجوء الى القضاء"
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1014 - الأربعاء 15 يونيو 2005م الموافق 08 جمادى الأولى 1426هـ