متابعة الصحافة المحلية اليوم، ستضعك أمام طريقتين متصارعتين في تناول الحدث الواحد في فترة الانفتاح السياسي، والمثال الأبرز هو الجدار العازل في المالكية. الطريقة الأولى أبرزت القضية على السطح، وحركت الماء الراكد وآثرت الاقتراب من المنطقة المحرمة مادامت تمس السواد الأعظم من هذا الشعب، الذي خرج 80 في المئة من أبنائه من سوق الأراضي وإلى الأبد. بل إن هناك من يقول إن هذا الجيل من البحرينيين هو آخر جيل يملك أرضا في بلاده بعد أن فتحت الأبواب أمام رأس المال الخليجي الذي اكتسح كل شيء.
الطريقة الثانية هي الاصطفاف في خندق واحد والدفاع ببسالة منقطعة النظير عن "المصالح الفئوية والشخصية" التي تأتي دائما دائما على حساب الشعب، ورمي هذه "الفضيحة" على الآخرين واتهامهم بها! على طريقة المرأة التي قال فيها العرب مثلهم المشهور: "رمتني بدائها وانسلت"، فهكذا هو العهد بتلك المرأة على الدوام، وفي مختلف القضايا الوطنية التي تمس عامة أبناء هذا الشعب!
على أن قضية الجدار العازل أكبر بكثير من قضية "أسكتهم أو أسكتوه"، لأن آثارها السلبية ستنعكس على مستقبل البلد اجتماعيا واقتصاديا وحتى سياسيا، لما تحمله من بذور مشكلات سيدفع ثمنها الجيل المقبل معاناة وعذابا وصراعا مريرا، حين يصبح السكن في بؤرة الهموم اليومية للمواطن المشرد في بلده.
من لا يفهم ما يجري سيفسر الأمر على انه حركة "تحريضية"، تماما كما جرى في فترات سابقة من تاريخ هذا البلد، أو يختزلها في صورة شخص غاضب يحمل عمودا من حديد يضرب به الجدار. أما الحقيقة فأكبر من ذلك، فنحن أمام البلد الوحيد في العالم الذي أصبح 90 في المئة من أراضيه أملاكا خاصة، وأمام الأرخبيل الوحيد في العالم الذي أصبحت غالبية سواحل جزره محاصرة وممنوعة على المواطنين في نوع "مقنن" من نظام "الابارتهيد" المدعوم بالخرائط التي تنشرها صحف الموالاة. ونحن في البلد الوحيد في العالم الذي يستمر على طريقة تمليك وتوزيع الأراضي بعيدا عن الرقابة البرلمانية أو مراعاة مصالح الغالبية العظمى من الناس، ومن دون خطة حكيمة تحفظ حقوق الأجيال.
الناس كما يروي لنا التاريخ الإسلامي شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار، وهي بلغة العصر: مصادر الثروة الطبيعية من غذاء وطاقة ومصدر رزق تمثل أساسيات الحياة. مثل هذه القاعدة التشريعية وضعت في وقت مبكر من العهد النبوي الشريف، حفظا لحقوق العامة ومراعاة لمصالح عموم الناس، لئلا تميل كفة أصحاب المال والحظوة والنفوذ على الفقراء والمستضعفين وعامة الناس.
على أن العصور التي تلت ذلك العصر الذهبي، سادت فيها القوانين الجائرة، واستمرت قرون الإقطاع تحكم عالمنا الإسلامي المنكوب. بل إن المدقق في قراءة التاريخ سيكتشف أن هذا الإشكال هو جوهر الخلاف بين الرأسمالية والاشتراكية طوال القرن الماضي، اللتين كانتا تتصارعان على تغليب كفة أحد الطرفين: حفظ مصالح الفرد أو حفظ مصالح المجتمع، من دون التوصل إلى صيغة معتدلة تحفظ التوازن بينهما.
لو نجح هذا البلد في اجتياز مرحلة الإقطاع فلن تسمعوا عن مشكلات من نوع "جدار المالكية"، ولو حافظ على تلك المعادلة لما حدثت شحة الأراضي وتفاقم أزمة السكن في بلد مازالت نصف أراضيه غير مسكونة.
ثم إن قضية جدار المالكية لم تأت من فراغ، ولم تكن قصة مفبركة من خيال صحافي يعاني من الفراغ، وإنما هي قضية تمس حياة المواطن البحريني في الصميم. فهي انعكاس لمعاناة أكثر من 44 ألف مواطن ينتظرون دورهم في الحصول على خدمة من الإسكان، في وقت يزداد المواطن عجزا عن تدبير مسكن "نصف لائق" بالحياة الكريمة. فأزمة السكن هي الوجه الآخر من قضية جدار المالكية وغيره من الجدران التي قامت على طول الساحل الغربي من جزيرة البحرين، وعلى سواحل المحرق، وعلى سواحل جزيرة النبيه صالح... ويخطئ من يعتقد أن المالكية وحدها في هذا الشأن حتى تحل مشكلتها بلقاء ودي أو غير ودي، فساحل البديع لا يختلف عن ساحل المالكية، ولا تختلف قلالي عن دمستان، ولا سترة عن الحد وعراد. زوروا أيا من هذه السواحل وستكتشفون الحقيقة سافرة من دون برقع أو قناع.
جدار المالكية، ربما يكون الصرخة الأخيرة التي يفترض أن تنبه الجميع إلى ما وصل إليه الوضع الإنساني و"الإسكاني" من نقطة اختناق. جدار المالكية إنما هو إطار الصورة، أما إذا دققتم في خلفية الصورة، فستكتشفون آلاف البيوت الآيلة إلى السقوط في مختلف المحافظات، وسترون المناطق المهملة منذ ثلاثة عقود، في بلد يعاني من ارتفاع نسبة الأيدي العاملة التي تزاحم المواطن في لقمة العيش والسكن وخدمات الصحة والتعليم وفرصة العمل التي تقتنص أربعا من كل خمس فرص عمل يولدها السوق!
الجدار يريده من يخاف على مستقبل البلد أن يكون صرخة توقظ الجميع، ويريده آخرون وسيلة للمزايدة وإثبات مزيد من التبعية والموالاة
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1013 - الثلثاء 14 يونيو 2005م الموافق 07 جمادى الأولى 1426هـ