كان ذلك في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي. كانت أمسية "تفقدية صغيرة" في نادي رأس الرمان العتيق، جمعت الأهالي، الغيورين على منطقتهم، و"خبراء السوء من الإفرنجية"، جلسوا على المنصة، وكان بجانبهم نائب في المجلس الوطني السابق يترجم لهم ما يودون تسويقه، وعلى الجانب الآخر جلس المناضل علي دويغر الذي كان عائدا للتو من بيروت، إذ فاجأ الجميع بخطأ مفصلي في ترجمة النائب أريد منها تلطيف زيارة "الخبراء" وصرف الأنظار عن أهدافها الحقيقية، التي تتمثل في نقل أهالي رأس الرمان إلى مناطق أخرى، وإحلال المنطقة الدبلوماسية "الحالية" على منطقتهم، وكان ما كان، وثار هياج الأهالي آنذاك على النائب والخبراء، ثم "تفركشت" الأمسية، وفيما بعد ردم البحر إلى ثالث بر بحري، وغاب الساحل بـ "قحته وحواليسه وجيره وخواليفه وحصمه"... وكذلك البحر عن عيون الأهالي، وبعد أن تعذر لهم تحقيق الهدف اتجهوا لامتلاك البحر وشيدوا عليه مباني إسمنتية تعانق السماء، ولم نعد نرى لا "الأسكله" ولا أمواج البحر التي كانت تلاطم "دولاب الباليوز" ومحطة الكهرباء ومسجد بن ساعد أو المسجد الكبير، ولا خوف بعد ذلك التاريخ من "ماية أم هلال" التي كانت تغرق الحي في فترات المد، ولا هم يحزنون.
ولا يزال كبار السن في حي رأس الرمان الفقير، لا ليس كبار السن فقط، حتى الشباب منهم، يسجلون ذكرياتهم عن أيام مضت، ولا يزالون يحنون "للدود البحري" الذي اختفى ولم يعد صالحا لصيد الأسماك، التي هي الأخرى لم تعد مربحة أو تحقق عائدا ماليا يكفي لتغطية العيشة الكريمة، ولكن كانت تشكل لهم حياتهم، وتلونها بلون البحر والمحار والحالوس.
تعرفون، لو كان هناك وعي بيئي، وكان هناك انفراج سياسي، وحق الاحتجاج والمعارضة، التي كانت في ذلك الزمان "مرض ايدز" والعياذ بالله، "وفي هذا الزمان توصف بـ "الطائفية"، ولله الحمد والشكر"، لكان سيف رأس الرمان، هو هو بجماله ورونقه وفشته وقحته وخيراته التي لا تنضب. غير أن "ضريبة التمدن" غيرت الحال إلى حال، ولم يعد رأس رماني واحد يملك دكانا صغيرا في المنطقة الدبلوماسية... فقد بيع بحره، ولا نعرف البائع من المشتري!
أليست هذه نهاية مؤلمة، حين يصبح بحر بكامله من مقتنيات أصحاب الثروات والنفوذ، أما أبناء الشعب فلا يملكون غير التغني به في الشعر ومفردات الأدب أو بالذكريات وبقصص المغامرات والمغامرين الذين كانوا يعبرون "الخور" يلي "الخور"، حتى البر الثالث المردوم؟
ماذا لو فتحت الدفاتر القديمة لتعويض أهالي رأس الرمان المادي والمعنوي عما اقتطع من جسدهم، ولو بالاعتذار لهم، أو الالتفات إلى شكواهم وتغريبهم في منطقتهم، وتخريب بيئتهم؟
ألم تقدم الحكومة مشكورة - بسبب التحذيرات البيئية من توقف استخراج اللؤلؤ بكميات تجارية من المنطقة وخصوصا في مناطق صيده المشهورة حول البحرين، وبعد أن سمح للمحار، أن يتكاثر تكاثرا كبيرا جدا، ويسبب ضررا كبيرا داخل الخليج العربي، إذ إن هذه الكائنات البحرية تتغذى على الثروات المتوافرة في هذا البحر، ما يحرم الكائنات الأخرى من الغذاء المناسب، ويطرد الأسماك من مناطق صيدها المعروفة بعد احتلال المحار لهذه المناطق وانتشاره فيها - على حملة توعية وحملة عودة إلى الغوص واستخراج اللؤلؤ بمكافآت سخية، مع الاحتفاظ بما يجود به المحار على مستخرجه؟
لقد أصبحت الحكومة تشجع على الغوص، وتطلب من الشركات السياحية استقطاب السياح، وعمل مسابقات صيد اللؤلؤ، وتسهيل وتكثيف رحلات الغوص لاقتلاع أكبر عدد ممكن من محار اللؤلؤ، وإجراء تشجيع محلي للطلبة والشباب عموما، والقيام برحلات بحرية منتظمة لهؤلاء المغامرين من أهل البلد ومن السياح الذين - بحسب مجلة سياحية - "سيذكرون البحرين وزيارتها بفص خاتم من اللؤلؤ قدمته له محارة بحرينية كريمة".
لماذا لم تفعل الحكومة شيئا لتعويض أهالي رأس الرمان، أو حتى إكرامهم ببناء بيوتهم الآيلة للسقوط، خصوصا أن وزارة الإسكان مشيدة على بحرهم، ألم يقولوا: ان الأقربين أولى بالمعروف، أم أن رأس الرمان أصبحت منسية، وعلى بحرها وزارة العدل أيضا، وكذلك المالية، والمصارف وفنادق الخمس نجوم... وسمي ما شئت من تعضيد للاقتصاد الوطني وازدهاره؟
العدد 1012 - الإثنين 13 يونيو 2005م الموافق 06 جمادى الأولى 1426هـ