العدد 1012 - الإثنين 13 يونيو 2005م الموافق 06 جمادى الأولى 1426هـ

تؤمـــــــان

قصة قصيرة - حسن الصحاف 

تحديث: 12 مايو 2017

في الوقت الذي كانت فيه الأتان ذات العينين الواسعتين والجحفلة العجيبة والذنب المكتنز شعرا الأذنين المنتصبتين وكأنهما خنجر استل من غمده، منطرحة أرضا باسطة قدميها الأماميتين إلى أقصى مدى بالإمكان بسطهما وبانت من جراء ذلك عروقهما وعضلاتهما نافرة وبدت وكأنها في طريقها إلى الانفجار، وفي الوقت ذاته تركت إحدى الاقدام الخلفية تلتصق بالأرض في حين رفعت الأخرى قليلا إلى الأعلى وتركتها معلقة في الهواء؛ كانت الشمس في تلك الساعة وعلى غير عادتها تصبغ السماء بلون مصفرا محمرا وترسل أشعة من خلال الغيوم الكثيفة تنذر بكارثة، كانت الأتان في ذلك الوضع العجيب الغريب في آن ليس بسبب الأرق والجهد من عمل أدته بكل إخلاص كما هو معتاد منها، بل كانت في ذلك الوضع الغريب الذي لم تعهده الحمير من قبل تحاول أن تضع مولودا جديدا وتتعامل مع ألم المخاض بشيء من الصبر والحنكة.

وبعد صراع طويل مع ألم المخاض الذي صاحبه نهيق متواصل صحبه شيء من الأنين الذي تتقطع له أوردة القلب بدت السماء مع ذلك الأنين المتواصل تهطل مطرا غزيرا وبدت تلك الأمطار وكأنها بكاء تذرفه السماء تجاوبا مع آلام الحمارة؛ بعد ذلك الصراع الطويل والمرير بدت بشائر الوضع تظهر وعلى مرمى حمير كثير كانوا متجمهرين حولها ليروا خروج الجحش أو الجحشة إلى الدنيا في أول لحظات ذلك الحدث وليتسنى لهم إطلاق نهيقهم تعبيرا عن الفرح بالقادم الجديد.

كانت المفاجأة الكبرى لهم جميعا: توأم. كان خروج جحشين صغيرين من رحم الأم الأتان مفاجأة لا يعادلها مفاجأة في عالم الحمير. والغريب في الأمر أنهما كانا في لحظة خروجهما إلى الدنيا متحاضنين كل يضم الآخر إلى صدره على ما يبدو. كان نهيق الحمير على أشده اذ طمس معه أنين الاتان التي لم يلتفت لها أو لأنينها أحد من الحمير. كان هذا الهرج والمرج قد بدا في اللحظة التي خرجت مؤخرتهما معا وعلى غير العادة المعهودة اذ يخرج رأس كل توأم على حدة. خرجت المؤخرتان ثم البطن والنهيق يعلو أكثر وأكثر وسيقان الحمير والآتان المجتمعة تتراقص وتتمايل، كروشها هي الأخرى تتمايل كل حسب حجمه يمينا وشمالا فرحا، وكل يصرخ ناهقا: "توأم، توأم" والأتان تئن أنينا لم يسمع مثله أنين في تاريخ الحمير قاطبة. خرجت مؤخرتا التوأم يغطيهما شعر دقيق ملتصق بالجلد وذنب دقيق يغطي دبرهما، كانت المؤخرتان حين خرجتا إلى الدنيا معا محمرتي ن وكأنهما قد أشبعا ضربا بالسياط. إنها المرة الأولى التي يحصل فيها أن يخرج جحش من الجحوش لحظة ولادته بمؤخرته أولا. كانت عادة الحمير أن تخرج رأسها إلى الدنيا أولا وقبل كل شيء، رأسها أولا وقبل كل شيء. كان خروج هذين الجحشين من بطن واحدة حدثا بحد ذاته ناهيك أن يخرجا بمؤخرتيهما إلى الدنيا في عالم الحمير فكان ذلك حدثا آخر يضاف إلى صفحة التاريخ الحميري.

وحال أن تم خروج الجحشين سالمين وارتطم جسدهما بالأرض علا النهيق عاليا بين الحمير حتى يقال إنه وصل إلى مشارف آخر الدنيا فرحا بخروج تؤمين من الجحوش في هذه الزريبة لا في غيرها، فجأة خف نهيق الحمير جميعا إلى حد الصفر وتسمر جميعهم فاتحين أفواههم محدقين بعيون جاحظة فيما رمته الأتان بعد ألم المخاض والولادة العسير: جحشان جميلان برأس واحدة، رأس واحدة لجحشين جميلين مكتملين.

كان رأس الجحشين يشتعل بياضا وقيل شيبا وتمتلئ صفحتاه بالعيون اي أن به أكثر من أربعة عيون وتساءل الحمير عن سر هذا العدد المهول من العيون في رأس واحدة غير أنهم لم يتمكنوا من الحصول على إجابة شافية، وكان يقع على قمة الرأس قبة عظمية دائرية يقطن فيها عقل واحد لكلا التوأمين قبة دائرية لا تشوبها شائبة تحتوي عقلا لا يعرف عنه شيء بعد. لم تكن الرقبتان اللتان تحملان رأس التوأم تنقصهما العضلات ولا الجمال كانتا تماما كما هي رقاب الحمير الأخرى مرفوعة بارزة العضلات وممشوقة. رأس واحدة لا غير لتوأمين مكتملين. لم حصل هذا في مجتمع الحمير؟ لم يعرف أحد السر.

كانت الأتان في تلك اللحظة تحاول أن تسترد عافيتها وتسترد أنفاسها لترى وليدها لكونها لم تصدق على ما سمعته من نهيق عال أنها أنجبت تواما حسبته توهما ناتجا عن سكرة الولادة وآلام المخاض. صدمها صمت الزريبة وصمت الحمير وصدمها رؤية أفواههم الفاغرة وعيونهم الجاحظة وجحفلاتهم الممتدة إلى الأسفل ولم يتجرأ أحد أن يعلن لها سبب كل هذا الصمت والوجوم. حملت جسدها بعناء ولوت رقبتها وحركة رأسها نحو التوأم ورأت مؤخرتيهما كما عهدته في مؤخرة حديثي الولادة: حمراء، ثم هي رأت جسديهما جميلا ونسحبت عينيها إلى ناحية الرأس وحال أن رأت المشهد أغمي عليها ودخلت في غيبوبة.

هذا الإغماء أيقظ الحمير من صدمتهم وتراكضوا أحدهم يجلب ماء وآخر يوقظها بأن يسر في أذنيها بعض الحديث الآزر وآخر ينفخ على وجهها من فيه علها تفيق. باءت جميع محاولتهم بالفشل فالأتان دخلت في غيبوبة دائمة.

في تلك الأثناء تساءل كثير من الحمير عن سبب حصول ذلك. لم يكن عند أحد الإجابة الصحيحة؛ فقد تجرأ أحد الحمير وقال إن الحمار والد التوأمين كان قد ظلم حميرا عدة ولم يشفق عليها لا لحموريتها ولا لما تقوم به من أعمال مرهقة وجاء هذا التوأم عقابا له على ما فعله بالحمير الأخرى ومحطة تاريخية تذكر من تسول له نفسه في معاملة الحمير بصورة قاسية فظة؛ آخر نهق وتشدق بأن الأتان التي تستلقي الآن على التربة ولا تقوى على استرجاع أنفاسها أو حياتها هي الأخرى ظلمت بعضا من الحمير التي لا تتوافق معها في الرأي أو العمل وها هي قد جزيت بما فعلت في توأميها خير جزاء.

في بدء الأيام الأولى تناقل كثير من الحمير ذلك الحدث فيما بينهم وتناقشوا حوله في الطرقات والميادين لا يشاركهم فيه أحد، فقد تساءل آخر من بين الحمير عن سبب فرح الحمير بقدوم التوأمين بادئ ذي بدء حين بانت مؤخرتيهما وقبل أن يظهر الرأس الغريب العجيب المشترك لهما؟ فقال في قرارة نفسه بعد أن لم يجبه أحد "إنه النفاق!" ثم عدل عن ذلك وقال أمام الجميع إنه لحداثة الحدث وجدته بين الحمير إذ لم يحصل في تاريخ الحمير أن أنجبت أتان توائم يخرجان إلى الدنيا بمؤخرتيهما أولا. كان هناك تحليلات كثيرة من الحمير، بعضها استفزازي وبعضها الآخر علمي حصين، في كلا الحالتين لم يؤخذ بها. لم تمض أيام قليلة حتى انتشر الخبر بين الحيوانات جميعا: توأم من الحمير يولدان برأس واحدة وقد خرجت مؤخرتيهما إلى الدنيا أولا. وجاءت من ثم بعد ذلك تحليلات الحيوانات الأخرى من كلاب وقردة وسعادين وجرذان حتى الذباب الذي كان لا يبارح الزريبة ولا الحمير تدخل وتحلل كما يحلوا لها وتعلل تحليلها للموضوع على أنه تنظر إلى القضية من منظور مختلف كليا عن بقية الحيوانات إذ تتيح له آلية الطيران التي تتمتع بها أن ترى ما لا يرونه وأغرب ما قاله الذباب هو أن الحمير كانت تطأ بحوافرها من دون مبالاة تلك المخلوقات الصغيرة التي لا ترى بالعين المجردة.

والجدال على شده بين الحمير في شأن التوأمين اللذان تركا من دون رعاية أو طعام أو شراب وبين الحيوانات الأخرى نفق التوأمان ولم يتجرأ أحد من الحمير على دفنهما لكي لا تصاب ذريتهم بالعدوى: عدوة إنجاب توائم برأس واحدة وعقل واحد.

مات التوأمان وأذابت الشمس لحمي جسديهما في فترة وجيزة وأبقت هيكلهما في الزريبة تحاك حولهما الحكايات والقصص على مر الزمان ولكل الأجيال القادمة من الحمير





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً