على غير عادته بدأ الرئيس اللبناني يخرج على صمته. فالرئيس اميل لحود اعتاد ممارسة لغة السكوت وعدم الرد على خصومه مهما كانت الاتهامات حتى إذا وصلت إلى مستوى التجريح الشخصي. وفي المدة الأخيرة بدأ الرئيس يفقد السيطرة على أعصابه وأخذ صبره ينفد. أمس مثلا اطلق تصريحات قوية بعد أن أدلى بصوته في بلدته بعبدات "المتن الشمالي". وخرج من غرفة الاقتراع ليؤكد استمراره في منصبه حتى اليوم الأخير. فالتصريح قوي وهو "ضربة استباقية" تريد قطع الطريق على خصومه واحتمال حصول المعارضة على غالبية في المجلس النيابي.
التصريح لم يقفل الباب على معركة وإنما فتح الأبواب على معارك مختلفة. والرئيس لحود أراد من كلامه توضيح موقفه، وايصال رسالة إلى مختلف القوى من معارضة وموالاة وهي: الاستقالة غير واردة.
اختلاط الأوراق السياسية ربما يفسر ذاك الانفعال الذي صدر عن رئيس يملك القدرة على التحكم بأعصابه وصبره على الانتقادات وعدم الكشف عن حقيقة مشاعره أو التصريح عن برنامجه السياسي.
ميزة الصبر هذه ليست مصطنعة وإنما هي نتاج شخصية مركبة من عنصرين: الأول التربية العسكرية واحترام التراتب والسكوت وقبول الأوامر، وهي كلها صفات يجب أن يتحلى بها الجندي حتى يرتقي في سلم التقدم الهرمي وصولا إلى رتبة الجنرال وقيادة الجيش لمدة تسع سنوات.
والثاني مهنة الرئيس، فهو ضابط في البحرية اللبنانية وتعلم الغوص "الغطس" وتدرب عليها لمهمات عسكرية. والغواص عادة يتدرب على حبس النفس للغطس في المياه وهو أيضا يضطر للعودة إلى السطح والنزول مجددا. مهنة الغطس دربت الرئيس/ الجنرال على تحمل ضغط المياه على عمق يتراوح بين 9 و12 مترا ومن ثم العودة كل دقيقة إلى السطح لالتقاط أنفاسه. فالغواص متدرب على السيطرة على أعصابه وعدم الانفعال ورؤية العالم من تحت الماء. فهو ينظر من تحت إلى فوق ويرى من هم على السطح ولا يراه الآخرون.
هذا النوع من التدريب المهني والتربية العسكرية رسم شخصية الرئيس وأعطى لحود قدرة على الصبر والرصد ورؤية العالم من تحت السطح. وكل هذه الصفات تتسم بالسرية وعدم التصريح والبوح أو الكشف عن المشروع والأهداف.
أسهمت هذه الصفات في رسم صورة غامضة عن شخصية الرئيس ومواقفه ومشاعره وحقيقة مساره وتوجهاته وتحالفاته وخططه المجهولة لدى الكثير من الحلفاء والخصوم. وهذا ما عبر عنه رئيس مجلس النواب في تصريحه الأخير حين تحدث عن "الاخطبوط" الأمني. فالاخطبوط رأس بأذرع مختلفة تضرب يمنة ويسرة. وهذه العقلية "الاخطبوطية" تشبه كثيرا صفات الغواص الذي يتمتع بقدرة على التحكم بأنفاسه وأعصابه نظرا لدقة موقفه والمخاطر المحتملة من ضغط المياه واحتمال انفجار أوعيته ودماغه إذا تجاوز في غطسه الأمتار المسموحة له بها.
مهنة الغطاس دربت ابن المؤسسة العسكرية على الصمت وعدم الانجرار أو الرد، وأيضا علمته على العمل تحت السطح وفي أعماق المياه ومراقبة الجميع ضمن شبكات وطبقات تحجب الرؤية أمام كل السباحين على سطح البحر.
شخصية الرئيس لحود مختلفة عن تلك الصورة التي نراها في محطات التلفزة والفضائيات، فهي ليست بسيطة وعادية كما يتصور بعض المراقبين وإنما هي شخصية معقدة ومركبة من عنصرين تقوم على مبدأ الغوص في الأعماق لحجب الرؤية عن الخصوم والاعتماد على غموض المواقف وعدم كشف الأوراق، وأخيرا الميل إلى السكوت وانتهاج مسلكيات ملتوية ترتكز على التخطيط والشبكات السرية التي يصعب فكها أو الوصول إليها. وهذا ما اشار نبيه بري إليه حين استخدم مصطلح "أخطبوط".
الجديد في هذه الشخصية الغامضة هذا التصريح الذي أدلى به الرئيس بعد خروجه من غرفة الاقتراع السرية. فهو على غير عادته أفصح عن تفكيره ومشروعه وخططه، وهذا يشير إلى احتمال من اثنين: الأول أن الرئيس استنفد صبره، وفقد قدرته على التحكم بأعصابه ومشاعره. والثاني أن الرئيس قرر الاقلاع عن سياسة الغوص معلنا عن بدء معركته. والمعركة كما تبدو تحتاج إلى أخذ نفس طويل من على سطح المياه.
الاحتمالان واردان
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1011 - الأحد 12 يونيو 2005م الموافق 05 جمادى الأولى 1426هـ