مع كل يوم نقترب فيه من يوم الاستحقاق الانتخابي الرئاسي التاسع في إيران، نلحظ فيه توقا شديدا لدى الناخب الإيراني وتباعا المرشح الإيراني نحو ما يمكن تلخيصه بـ "الفضاء الجديد". وهي العبارة التي باتت تتردد على لسان حتى أكثر المرشحين "تشددا" فضلا عن انسيابها في خطابات أكثرية الناشطين من أجل فوز مرشحهم بالانتخابات كما "المياه في مجاريها الطبيعية"
يقولون إنه فضاء يجب أن "يليق بكل إيراني"، فضاء لا وجود له للمحسوبية والمنسوبية، فضاء يمنع تشكل "نواتات" للفساد الاقتصادي أو السياسي التي عادة ما تجد طريقها للتشكل على هامش الاقتدار السلطوي أيا تكن أيديولوجية النظام ونوايا الحاكم ومناقبيته.
فضاء يفتح الباب واسعا أمام حركة سلسة لتداول المسئولية للنخب بكل مشاربها وأطيافها.
فضاء يليق بالوطن الكبير، الوطن الأم الذي يفترض أنه يضم ويحتضن في داخله كل النواتات والمكونات "الأصغر" للوطن الأم الكبير من مكونات دينية أو وطنية عامة أو ثقافية أو عرقية أو فئوية أو مناطقية.
فضاء يفسح بالمجال للرأي والرأي الآخر أن يتجاذبا ويتدافعا من أجل رفعة "الوطن" وتقدمه وعزته وأخذ مكانه اللائق بين الأمم وفي المعادلة الدولية شرط أن يبقى سقف كل تلك التجاذبات والتدافعات سقف الوطن لا سقفا مستعارا من هنا أو هناك، وأن يكون هذا "الوطن" بالمقابل متاحا للجميع من دون استثناء للاحتماء به والتغني به والاستعانة به لنيل الحقوق بصورة متساوية لا غبن فيها "لصغير" لحساب "كبير" ولا لفقير لحساب غني، ولا لضعيف لحساب قوي!
إنه إذا عصر "التجديد" وإعادة وصل ما انقطع بين الناخب والمنتخب يجب أن يستثمره المرشح من أجل إدراك أفضل لهموم المواطن واهتماماته، وأن يستثمره المواطن الناخب ليقول كلمته من دون مجاملة أو وجل.
مثل هذا الكلام يفترض به ألا يكون خاصا بإيران. إنه الكلام الذي نسمعه اليوم في أكثر من بلد عربي وإسلامي. لكن التحدي الأكبر الذي تواجهه هذه البلدان مجتمعة ومنها إيران هو: أي فضاء جديد هو هذا الذي يجب أن تختار؟! هل هو الفضاء الجديد الذي يلح عليه المواطن ويطالب به منذ زمن بناء على حاجات داخلية نابعة من تطور طبيعي للفرد والجماعة في المجتمع؟! أم هو الفضاء "الجديد" الذي تسعى الى فرضه على الناس القوى الخارجية المتحكمة بزمام المعادلة الدولية حماية لمصالحها؟! أم هو الفضاء "الجديد" الذي تتخيله وتتوهمه النخب المقطوعة الجذور عن الناس سواء كانت موالية أو معارضة للحكم في بلادها؟!
فالناس يريدون فعلا أجواء جديدة وفضاء جديدا و"هواء" جديدا على حد تعبير أحد مرشحي الرئاسة في إيران، ودماء جديدة تتدفق في عروق الحركة السياسية و"المجتمع المدني" على حد سواء ولكن من النوع الذي يشاركون به هم بشكل أساسي انطلاقا من مواقع وجودهم الرئيسي ومواقع نشاطهم الرئيسي ككتل جماهيرية كبرى متحركة، وليس أي "فضاء" كان حتى لو كان "جديدا" لمجرد أن مجموعة نخبوية هنا أو تجمعا حزبيا هناك تخيلوه أو توهموه في غرفهم المغلقة أو مناقشاتهم العبثية.
من يقرأ الساحة الإيرانية عن قرب اليوم ويلامس حراكها السياسي يستطيع اكتشاف الكثير من "الجديد" الذي يريده الناس، منه ما هو معروف لدى عامة الناس في بلدان العالم المختلفة كما ذكرنا، لكن منه ما هو خاص ربما بإيران أكثر من غيرها. وقد يفاجأ المراقبون إذا ما اكتشفوا أن من بين هذا "الجديد" هو الانكفاء عن مقولة الحزب والأحزاب، وكذلك الانكفاء عن مقولة "الديمقراطية" والعمل الديمقراطي على الطريقة الغربية المتعارف عليها وخصوصا بعدما رأوا من مشاهد "ديمقراطية" في العراق وأفغانستان وإلى حد ما في فلسطين ولبنان!
لقد بدأوا يبحثون عن "الجديد" فعلا، لكنه الجديد القادم من المسجد والجامع والحسينية ورموز المجتمع الأهلي الضاربة جذورها في الأرض بعد أن اكتشفوا إمكان أن تكون الأحزاب مجرد واجهة لكيانات بلا جذور وقيادات سلطوية بلا جمهور.
إنها أشبه بـ "يقظة" الفتى اليافع من أحلام المراهقة و"العودة" - إذا شئت - إلى سن الرشد!
الراسخون في علم التحولات الاجتماعية في إيران منذ نهضتها الدستورية في مطلع القرن الماضي مرورا بالحركة التحررية الاستقلالية وتأميم النفط ومن ثم تصدر علماء الدين لثورتها التحررية السلمية المعروفة بالثورة الإسلامية في العام 1979 وتعريجا على الحركة الإصلاحية المتجددة في العام 1996م يكادون يقطعون بأن الناس في إيران ليسوا "حزبيين" ولا يحملون ودا لمقولة الأحزاب، ومن المستبعد جدا أن يلجأوا يوما إلى "الحزب" بمفهومه الغربي الليبرالي على الأقل وسيلة للإصلاح أو التجدد فضلا عن خشبة للخلاص أو الإنقاذ!
الناس في إيران يبحثون عن "ربيع" حقيقي يتنفسون فيه الهواء الطلق انسجاما مع هويتهم الدينية و"القومية" والثقافية الاعتدالية المسالمة بعيدا عن الإفراط والتفريط في السلوك والمعاملات سواء فيما بينهم أو مع "الآخر" حتى لو كان خصما ظالما!
الشاعر الكبير حافظ الشيرازي يكاد يلخص في بيت شعره الشهير هذا الاعتقاد السائد لدى الإيرانيين عندما يقول:
سعادة الدارين في هذين البيتين
مروءة مع الصديق ومداراة مع العدو!
لذلك، فإن كل التوقعات والتحليلات والاستطلاعات في إيران تفيد بأن الناس يبحثون عن فضاء جديد حقا وربيع طازج ونقي وأصيل حقا ليأت به أيا كان اسم الرئيس المقبل، ولكنه لن يكون إلا ابنا للاعتدال والتنمية والوسطية والمروءة مع أهل الداخل كل الداخل، والمداراة مع أهل الخارج كل الخارج من دون أن يفرط في أي بند من بنود وطنية الناس أو تدينها أو يفرط في "تساهله" أو "تسامحه" مع أهل الخارج.
ثمة من "يقطع" هنا مغامرا بهذا القطع ويقول إن الرئيس المقبل القادر على سوق البلاد باتجاه هذا "الربيع" لن يكون أحدا غير رفسنجاني!
هكذا يروج حواريوه ومناصروه ومحازبوه و"شبابه وشاباته" الجدد في شوارع طهران التي تمتلئ هذه الأيام "بمهرجاناتهم" المتميزة و"استعراضاتهم" الملفتة بالقياس مع غيرها. ولكن ذلك دونه معركة أفلام انتخابية قاسية ومنافسة "شوارعية" حامية و"حرب نفسية" شديدة القسوة تقودها ضده جماعات اليمين واليسار الديني المتشدد هنا بكل أشكال المناشير والبيانات الليلية والنهارية الخفية والعلنية إلى حين انجلاء الموقف في 27 من الشهر الجاري
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1009 - الجمعة 10 يونيو 2005م الموافق 03 جمادى الأولى 1426هـ