الإنسان مفطور على الحرية وهي صفة ملازمة لذاته لا تنفك عنه أبدا، إلا إذا تخلى عن جزء من كينونته الإنسانية، والحرية أغنية يرددها الأحرار في كل زمان ومكان، وهي قيثارة الملحن، وقصيدة الشاعر، وفكرة الفيلسوف، ولهذا فإن الإنسان يضحي بحياته في سبيلها لأنها انعكاس وترجمة لصدى الروح في انطلاقتها نحو الكمال الإنساني. ومن هنا تتضح أهمية هذه القيمة الوجودية، والحرص عليها. فالحرية بجميع أشكالها السياسية والفكرية والدينية والاجتماعية والاقتصادية مطلب لكل الأفراد والمجتمعات المتمدنة والمتطورة. وقد جاء قانون التجمعات الذي عرضته السلطة التنفيذية على البرلمان لإقراره بصفة مستعجلة متعارضا مع هذه القيمة لأنه يلزم الجماعة التي تريد الخروج في مسيرة أو تجمع أو اعتصام ليس فقط بإخطار وزارة الداخلية بالرغبة في التجمع، بل بأخذ الترخيص في ذلك، وإذا خرجت من دون ترخيص فمن حق السلطة فض التجمع بالقوة. ولهذا فإن لجنة الشئون التشريعية بمجلس النواب رفضت هذا القانون جملة وتفصيلا. ومن ثم جاء تأكيد لجنة الخارجية والدفاع والأمن الوطني حق النواب في رفض هذا المشروع. واستطاعت أكثر من 52 جمعية مدنية إسقاط هذا القانون واقتراح قانون بديل عنه، فشكلت لجنة مكونة من سبعة حقوقيين لدراسة هذا القانون واقتراح قانون بديل وتقديمه لجلالة الملك.
ومهما يكن من أمر فإن هذا القانون يتعارض مع جو الانفتاح السائد والمشروع الإصلاحي. كما أنه يحتوي على مواد فضفاضة تمس "جوهر الحق" كما يعبر الحقوقيون، وهو يتعارض مع الدستور، فالمادة 2 تعطي الحق للمحافظ بفض التجمع بالقوة إذا خرج من الخاص إلى العام بحسب تقييمه هو، وقانون التجمعات يتعارض مع شعائر دينية عريقة نشأ عليها هذا الشعب وهي مواكب العزاء الحسيني، لأنه لا يصدق عليها دور العبادة الخاصة، ولم يأت استثناء يوضح ما إذا كانت شاملة للمواكب أم لا. فمتى ما كان هناك تجمع لأشخاص يزيد عددهم على عشرة أشخاص فيجب طلب ترخيص في ذلك. فالمباريات الرياضية وخطب الجمعة وغيرها داخلة تحت القانون، ومن المؤكد أن هذا القانون يتناسب مع مرحلة قانون أمن الدولة، ولا يتناسب البتة مع عصر الانفتاح ودولة القانون، كما أنه يسمح بتوقيف من يخالفون هذا القانون ستة أشهر. وتذرع الحكومة بوجود نقص قانوني لا يسده إلا هذا القانون أمر فيه بعد عن الحقيقة، فقانون العقوبات لسنة 76 وقانون رقم 8 لسنة 73 فيهما الكفاية لمن أراد استنباط أحكام خاصة بالتجمعات والمسيرات، ولهذا يعتقد أن تلويح الحكومة بهذا القانون يأتي بعد أن شهدت البحرين مسيرة كبرى واعتصاما حاشدا يطالب بالإصلاح الدستوري، ولهذا فمعاقبة الحكومة خصومها السياسيين ممن قاطع الدخول في البرلمان الحالي الغرض منه تحجيم هذا التيار وتشويه صورته، وهذا طبعا لا يتناسب مع فترة الانفراج والانفتاح التي تعيشها البحرين. وهذا ما يفسر رفض مجلس النواب التعاطي مع هذا القانون واعتباره تراجعا إلى الخلف، وبدل أن تسعى الحكومة إلى استصدار قوانين مقيدة لحرية حق الاعتراض، فالواجب عليها السعي الحثيث إلى معالجة الملفات العالقة، فالهروب من مواجهة الواقع لا يصلح الأمور بل يزيدها تعقيدا، كما أن المسيرات تعبر عن مدى الاحتقان الذي وصل إليه الشارع، ولهذا لزم التذكير بأهمية فتح القنوات الحوارية للتوصل إلى مشتركات تخدم الصالح العام. ففي المجتمعات الديمقراطية ذات الحيوية يتم التعاطي الايجابي مع جميع التيارات وتدرس مطالبها دراسة وافية، ويتم اقتراح الحلول للوصول إلى حال الاستقرار والأمن التي يطمح إليها جميع الأطراف.
ولا يخفى على المراقبين أن غالبية التجمعات إن لم يكن كلها خرجت بعد إخطار الجهات المعنية بإقامة هذه الفعالية أو تلك، ولو كان هدفها تخريبيا لما كان هناك داع لمسألة الإخطار، ولهذا فإن قانون التجمعات يحاول قراءة النيات بحسب ما يعتقده هو.
والدول المتقدمة تعطي كامل الحق لجميع الأحزاب والتكتلات والجمعيات السياسية والمدنية بحق التظاهر والاختلاف. وإلا لما كانت هناك حاجة إلى برامج سياسية يطرحها المرشحون لدخول البرلمانات، إذا كانوا منسجمين تماما مع الأطروحات الحكومية ومتناغمين مع كل ما هو حكومي. وستنتفي على أساسها فكرة الحكومة والمعارضة، وتتداخل هذه المفاهيم وتصبح مفاهيم نظرية. أما إذا تعاملت الحكومة مع المعارضة على أنها كيان قائم بذاته له أجندته ورؤاه وأفكاره الإصلاحية، فلابد أن تفسح المجال لهذه الرؤى لترى النور ولا تبقى تعيش في العتمة. والمعارضة المكشوفة التي تتعامل بكل شفافية ووضوح أفضل من تلك التي تعمل في الخفاء. وهنا نشير إلى تصريح رئيس جمعية الوفاق الوطني الإسلامية الشيخ علي سلمان، بأن المعارضة لا تسعى إلى تغيير نظام الحكم، فهي تؤكد أنه وراثي، بل تسعى إلى الانخراط في العملية السياسية القائمة بشرط العدالة في توزيع الدوائر الانتخابية... بما يساهم في إزالة جميع أشكال التوتر، ويعزز الاستقرار والأمن اللذين ينشدهما كل من الحكومة والمعارضة
العدد 1008 - الخميس 09 يونيو 2005م الموافق 02 جمادى الأولى 1426هـ