نتابع القراءة في حديث الإمام الرضا "ع" وهو يتناول "خصالا عشرا" يتم بها عقل الإنسان المسلم مضى الكلام عن ست منها، وهذه ثلاث خصال: الفقر في الله أحب إليه من الغنى، والذل في الله أحب إليه من العز في عدوه، والخمول - يعني في الله - أشهى إليه من الشهرة. ..
من خلال هذه الخصال الثلاث يحدد لنا الإمام الرضا "ع" "المعيار الأساس" في حركة الإنسان المسلم ألا وهو "رضا الله تعالى"، وعند هذا المعيار تسقط كل المعايير الأخرى التي تتنافى مع "رضا الله تعالى".
وهنا يبرز الفارق الكبير بين الإنسان المؤمن الذي يعتمد "رضا الله" منطلقا ومعيارا وقاعدة، والإنسان الآخر الذي يعتمد منطلقات ومعايير وقواعد أخرى...
ولنا في التطبيقات الآتية شواهد وإيضاحات:
1- في مجال الحب والبغض: الإنسان المؤمن يحب في الله ويبغض في الله... وأما الآخر فتحكم حبه وبغضه "الدوافع المصلحية والأغراض النفعية الذاتية".
قال رسول الله "ص" لأصحابه: "أي عرى الإيمان أوثق؟"، فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال بعضهم: الصلاة، وقال بعضهم: الزكاة، وقال بعضهم: الصيام، وقال بعضهم: الحج والعمرة، وقال بعضهم: الجهاد.
فقال رسول الله "ص": "لكل ما قلتم فضل، وليس به، ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وتوالي أولياء الله، والتبري من أعداء الله".
2- في مجال الرضا والغضب: الإنسان المؤمن رضاه لله، وغضبه لله... وأما الآخر فتحكم رضاه وغضبه مصالحه الذاتية.
أضع بين أيديكم هذا المثال: كثيرون يتفجرون غضبا حينما تمس مصالح دنياهم، ولكن حينما تمس مصالح دينهم لا يخفق لهم قلب، ولا تطرف لهم عين وكأن ذلك لا يعنيهم. لا يعني هذا أن الإنسان يجب أن يصمت ويرضى عندما تصادر حقوقه ومصالحه الدنيوية، الأمر ليس كذلك، فمسئولية هذا الإنسان أن يتحرك، أن يطالب، أن يغضب، أن ينتفض، أن يثور.
كل المحرومين مسئوليتهم أن يرفعوا صوتهم عاليا، أن يصرخوا، أن يحتجوا... وهذا حقهم المشروع الذي كفلته الشرائع والقوانين... في الحديث: "عجبت ممن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج شاهرا سيفه".
الذين لا يجدون عملا، وظيفة، سكنا، لقمة، لهم كل الحق ألا يصمتوا، وأن يعتمدوا كل الأساليب المشروعة من أجل الحصول على حقوقهم، مع الحفاظ على الأمن والاستقرار.
ويجب أن يقف مع هذه المطالب العادلة كل القادرين من أفراد، وجمعيات، ومؤسسات وقوى وفعاليات.
ويجب على الحكومة، وجميع مؤسساتها أن تتصدى بصدق وجدية وفاعلية لإنقاذ هؤلاء من أزمات صعبة وخانقة أطبقت على كل حياتهم.
إذا، أن يغضب الإنسان من أجل لقمة عيشه، ولقمة أطفاله، ومن أجل مساحة صغيرة من الأرض تأويه وتأوى أطفاله، أمر مشروع كل المشروعية.
ولكن السؤال: هل ان هذا الإنسان يغضب، وينتفض، ويصرخ، ويعتصم، ويحرك احتجاجات ومسيرات حينما تنتهك الأحكام الالهية، والقيم والأخلاق؟
ما حجم غضبنا عندما نسمع ونرى أن "أماكن الدعارة والفساد الأخلاقي" تنتشر بشكل مرعب في كل مدن وقرى هذا البلد المسلم؟
بالمناسبة إننا نبارك لأهالي منطقة النعيم موقفهم الجريء في التصدي لبعض أوكار الدعارة وأماكن العبث الأخلاقي. كما نثمن التجاوب الكبير من قبل المسئولين في وزارة البلديات وفي شئون السياحة، آملين أن تتواصل الجهود لتطهير البلد بكامله من كل هذه التلوثات الأخلاقية التي أساءت إلى سمعة البحرين وإلى سمعة شعب البحرين، وإلى حكومة البحرين.
3- ومن التطبيقات: الحالات الثلاث التي ذكرها الإمام الرضا "ع" في حديثه: الحالة الأولى: "الفقر في الله أحب إليه من الغنى"، هنا فقر يضع الإنسان في خط طاعة الله وهنا غنى يضع الإنسان في خط معصية الله.
فأي الخيارين أحب إلى الإنسان المؤمن؟ لاشك أن الخيار الأول هو الأحب إليه. وأما إذا كان في "خيار الغنى" ما يحقق الطاعة لله تعالى، فلن يتردد الإنسان المؤمن في قبول هذا الخيار، وان كان في خيار الغنى ما يضع الإنسان أمام مسئوليات صعبة جدا، وأمام مخاطر شديدة وقليلون الذين ينجون من فتنة المال والغنى. قال الله تعالى: "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" "العلق: 6 و7".
وورد في الحديث: "انه ما من يوم إلا وملك ينادي من تحت العرش: يا ابن آدم، قليل يكفيك خير من كثير يطغيك".
الحالة الثانية: "والذل في الله أحب إليه من العز في عدوه" القيمة كل القيمة عنده في القرب من الله، وليس مهما أن يعلو أو ينخفض عند الناس، فلا يحزنه ذل مادام ذلك من أجل الله، ولا يفرحه عز مادام ذلك في غضب الله.
الحالة الثالثة: "الخمول "في الله" أشهى إليه من الشهرة" إن الإنسان قد ينشر له من الثناء والمدح والصيت والشهرة ما بين المشرق والمغرب ولا يساوي عند الله جناح بعوضة. ورب كبير كبير عند الناس هو عند الله صغير حقير. ورب مغمور خامل الذكر بين الناس إلا أنه عند الله من الأولياء. قال رسول الله "ص": "رب ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، لو قال: اللهم أسألك الجنة! لأعطاه الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئا"
وقال "ص": "قال الله تعالى: إن من أغبط أوليائي عندي رجلا حفيف الحال "سوء العيش وقلة المال" ذا حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه بالغيب وكان غامضا في الناس "الخامل الذليل" جعل رزقه كفافا فصبر عليه، عجلت منيته فقل تراثه وقل بواكيه"، إن العبد المؤمن ليستعذب الخمول مادام ذلك من أجل الله، وإنه ليبغض الشهرة التي تبعده عن الله.
في ذكرى رحيل الإمام الخميني
نعيش هذه الأيام الذكرى السادسة عشرة لرحيل الإمام الخميني رضوان الله عليه. ولا يتسع حديث عاجل أن يلامس شيئا من حياة هذا الرجل العظيم، الذي أعطى كل وجوده المبارك لله سبحانه، وعاش أعلى درجات القرب منه تعالى، وجاهد من أجل الإسلام، وتحدى قوى الاستكبار في هذا العصر، فما عسانا نتحدث في هذه العجالة؟
نكتفي بمقاربة هذا العنوان: "الإمام الخميني رفض الشهرة فأعطاه الله الشهرة". كان الإمام الخميني يبتغي بكل ما صدر عنه مرضاة الله تعالى، ولم يكن طالب شهرة. في حياته الكثير الكثير من الشواهد على هروبه من الشهرة. وهذه بعض شواهد:
1- ألف كتابه المعروف "كشف الأسرار" ورفض أن يكتب اسمه على الكتاب، وعلل ذلك بقوله: "لقد ألفت هذا الكتاب ابتغاء مرضاة الله وليس طلبا للشهرة" إلا أن إرادة الله شاءت أن يظهر اسمه وينتشر.
2- تولى أحد طلبته طبع كتابه "المكاسب المحرمة" وقد رفض الإمام أن يكتب اسمه في الكتاب... فطلب منه أن يكتب اسمه فقال: "كلا، لا حاجة إلى ذلك، المهم هو أن تنشر المباحث الموجودة فيه... لا حاجة لذكر الاسم، يطبع بهذه الصورة وإلا لا يطبع".
قال متولي الطبع: قلت للإمام: "اكتبوا سيدي اسمكم فيه على الأقل من أجل أن يعرف من لديه اشكالات على الآراء الواردة صاحب هذه الآراء"، فوافق وقال: "حسنا، إذا كان الأمر كذلك أكتب اسمي".
3- الإمام ما كان يأذن بنشر وتوزيع صوره: ما كان يسمح لأحد بالتقاط الصور له، خشية أن يستفاد منها في الدعاية لمرجعيته "كان هذا الأمر قبل اندلاع الثورة الإسلامية".
4- لم يكن يسعى إلى استقطاب المريدين والمؤيدين حوله... كان يهمه أن يلتف الناس حول "القيادة المرجعية"، وأن يلتف الناس حول الإسلام... الجانب الذاتي لا يمثل شيئا كبيرا عنده.
أقام عدد من كسبة طهران مأدبة غداء بمناسبة اطلاق سراح الإمام من الإقامة الجبرية، وقد حضر الإمام هذه المأدبة التي تحدث فيها أحد الكسبة وخاطب الإمام بقوله: لقد قام الكسبة بهذا العمل من أجل سماحتكم.
فقال الإمام: "إذا قد فعلوا شططا وعبثا... إذا كان عملهم من أجل الله فأجرهم على الله، وعليهم أن يقوموا بذلك، أما إذا كان عملهم من أجلي، فإنني ليس لدي ما أعطيه لهم".
5- كان يكره المدح والاطراء: كان يستدعي الذين يبالغون في مدحه في خطاباتهم أو في مقابلاتهم، ويعاتبهم قائلا: "لماذا تتحدثون بأمور لا واقع لها؟ لماذا تصفوني فوق ما أنا عليه؟ لماذا تغالون في بهذه الصورة؟".
- في أحد اللقاءات مدحه أحد العلماء فتغير وجه الإمام ثم قال للمتحدث: "أرجو ألا تغرني هذه الكلمات، فلست سوى أحد الخدمة".
- قال لأحد الأشخاص الذين بالغوا في الاطراء والثناء عليه، والغضب ظاهر على وجهه: "ما هذه الأوصاف التي تطلقونها بشأني؟ لست أنا الذي تصفونه بهذه الأوصاف".
6- عندما طبع كتاب "تحرير الوسيلة" وضعوا على غلافه الألقاب التي اعتادوا على وضعها على الرسائل العملية من أمثال: آيه الله العظمى، وزعيم الحوزات العلمية، ولكن الإمام عندما عرف ذلك منع توزيع نسخ الكتاب وقال: "يجب ازالة هذه الألقاب".
7- كان يتجنب أماكن الصدارة في المجالس العامة، فاذا حضر مجلس عزاء يجلس بهيئة المستمع العادي، وبتواضع وسط الطلبة الآخرين.
8- بعث تلاميذ في الصف الخامس الابتدائي رسالة الى السيد الإمام قالوا فيها: "لقد اردنا ان نكتب لكم رسالة ننصحكم فيها... ولكننا انتبهنا الى أن عملنا هذا خطأ كبير ومعصية. لأنك شخص عظيم ذو تقوى وورع، وقد تحديت بصمود قوي الشرق والغرب، وأنت تجاهد الآن القوى الشيطانية أما نحن فأطفال قد لا نميز بين ايدينا اليمنى عن اليسرى، فكيف نقنع أنفسنا بأن ننصحكم؟!".
وقد كتب الامام في جواب هذه الرسالة رسالة قال فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم... أبنائي الأعزاء والطيبين، ما أجمل ان تكونوا قد كتبتم لي النصيحة التي كنتم تريدون كتابتها لي! نحن جميعا بحاجة للنصيحة، ونصيحتكم - أيها الأعزاء - نقية من الأغراض صادرة عن صفاء قلب".
9- كتبت فتاة رسالة للامام قالت فيها: "يا امامنا، نحن نحبك لأنك تحب الله، ونحن نرتبط بك لأنك مرتبط بالله". فكان الامام يقرأ هذه الكلمات وهو يبكي ويقول: "يا ليتني كنت مرتبطا بالله لكي تكون هذه الكلمات مطابقة للواقع".
هذه بعض شواهد ولقطات اخترناها من كتاب "قبسات من سيرة الإمام الخميني" وهو غني بالمادة والمعلومات التي تناولت الابعاد المتعددة في حياة الامام الخميني، فنتمنى ان يقرأ شبابنا هذا الكتاب بأجزائه الأربعة لينفتحوا على شيء من فكر الإمام، وشيء من روح الامام، وشيء من جهاد الامام... وما أحوج أجيالنا في هذا العصر إلى أن تتربى من خلال عطاءات الامام الخميني الربانية في زحمة التحديات التي تحاول ان تصادر هوية هذه الاجيال الايمانية والروحية والفكرية.
التدريس على المذاهب الخمسة
عودة الى مسألة تدريس التربية الدينية على المذاهب الخمسة، ليس انطلاقا من حس طائفي، فما أبغض هذا الحس وما أسوأ هذا الحس، وما أخطر هذا الحس. وكم قاست مجتمعات المسلمين من عداوات وصراعات وفتن عمياء بسبب الحس الطائفي المتعصب.
حينما نطالب بتصحيح بعض الاوضاع بما يحفظ لاتباع هذا المذهب أو ذاك المذهب حقوقهم المشروعة كمواطنين في هذا البلد، فيجب ألا نتهم بالطائفية، ويجب ألا نتهم بالاساءة الى وحدة الصف الوطني.
مشكلة البعض أنه يحمل شعار "مناهضة الطائفية" ولكن من أجل تكريس مزيد من الطائفية، ولذلك يصح ان يقال عن هذا الشعار انه "كلمة حق يراد بها باطل".
ان المناهضة الحقيقية للطائفية هي اقتلاع اسبابها ومكوناتها في كل واقعنا الاجتماعي، وفي كل واقعنا السياسي، وفي كل واقعنا الديني.
ان انهاء الطائفية يبدأ بانهاء التمييز بين المواطنين على اساس المذهب. اذا وجدنا المسئولين في جميع مؤسسات الدولة يتحررون من عقلية التمييز المذهبي فتلك هي الخطوة الجادة في طريق الخلاص من الطائفية البغيضة.
لا تكفي الخطابات ولا تكفي الشعارات، المهم ان نجد التطبيقات الصادقة والممارسات الحقيقية.
نعود الى مسألة تدريس التربية الدينية وفق المذاهب الخمسة لنطرح بعض ملاحظات:
1- ماذا يعني وزير التربية بقوله في معرض رده على الاقتراح بقانون بشأن تدريس التربية الدينية في وزارة التربية والتعليم وفق المذاهب الخمسة: "تود الوزارة تأكيد احترامها الكامل وتقديرها العميق للمذاهب الخمسة...."؟
هل من الاحترام والتقدير مصادرة حق المذهب الامامي ان يكون له بعض الحضور في مادة التربية الدينية؟ وخصوصا ان اتباع هذا المذهب لا يمثلون اقلية في هذا البلد، ومادام هناك حضور للمذهب الآخر.
2- ان رفض اللجنة المعنية في مجلس النواب لتدريس الدين وفق المذاهب الخمسة جاء معللا بـ "تحصين المتعلمين من التعصب والانفلات والفرقة واثارة الفتن والخلافات مع ضرورة تعزيز الانفتاح والحوار وآداب احترام الرأي والرأي الآخر".
وتعقيبا على ذلك نقول:
أولا: ان فرض احد المذاهب على اتباع المذاهب الأخرى هو الذي ينتج التعصب والانفلات والفرقة واثارة الفتن والخلافات، نتيجة الاحساس بالغبن والمصادرة والتهميش والهيمنة.
ثانيا: أين هو التطبيق العملي لشعار المساواة في الحقوق بين المواطنين؟ أليس من حق هذا المذهب أو ذاك ان يتعلم ابناؤه في المدارس الرسمية بعض أسس المذهب وشيئا من احكام الفقه؟
ثالثا: ان العرض العلمي الهادئ لآراء المذاهب وبلغة خالية من الاثارات مع تجنب بؤر التوتر والخلاف، أمر يكفل حماية الاجواء الدراسية من كل اشكال التعصب والفرقة والانفلات.
واذا كانت هناك خشية حقيقية من ذلك، فالعلاج ليس بفرض رأي مذهب واحد، مع التسليم بأن هذا المذهب لا يمثل مذهب أكثرية، والعلاج هو ان تقتصر المادة الدراسية على المساحات المشتركة والغاء كل الخصوصيات المذهبية، إلا أننا لا نجد في التنوع أية خشية، اذا اتقنا لغة العرض واسلوب الطرح.
3- ستبقى المطالبة بتدريس المذهب حقا مشروعا، ولا يصح ان تتهم هذه المطالبة بأية خلفيات طائفية.
اننا حينما نطالب بإزالة الغبن الذي فرض علينا طيلة تاريخ طويل لا يقال إننا طائفيون، أليس من شعارات هذه المرحلة وفي ظل مشروع الإصلاح إلغاء كل اشكال التمييز، وازالة كل آثار الحقبة الماضية؟
إقرأ أيضا لـ "السيد عبدالله الغريفي"العدد 1008 - الخميس 09 يونيو 2005م الموافق 02 جمادى الأولى 1426هـ