العدد 1007 - الأربعاء 08 يونيو 2005م الموافق 01 جمادى الأولى 1426هـ

مجانين

قصة قصيرة - حسن الصحاف 

تحديث: 12 مايو 2017

"شجـع طفلا، لا تشجـع كهلا". صرخ بها وهو متوهج القسمات أمام الجميع وضحك عاليا. كان جميلا والوسامة علامة تميزه بين جميع الجالسين في رحاب المقهى القديم. عيناه الواسعتان تجولت في لحظات سريعة في المكان وحدقت في وجوه الجميع بمن فيهم أنا. سـألـني بعد أن خزني من رأسي حتى أخمص قدمي: "هـل تـسمح لي بالجلوس؟" أجبته بسرعة فائقة من دون أن أفكر في لحظة عما ستأتي بها هذه الدعوة من جدال واسع وكريه كما هو معروف عنا حين نناقش بعضنا بعضا: "نعم، تفضل" ردي كان سريعا نتيجة اشتياقي معرفة سبب مقولتـــه: "شجع طفلا، لا تشجع كهلا". المقهـــى مكتظ برواده الدائمين المشبعة أجســادهـم برائحته والطارئين الذين يأتون لإراحة أجسادهم من سير مرهق في جو حار ورطب، يبدو أنه أحد منهم. صراخ هنا، وحديث هادئ هناك، البعض منطوي على نفسه يأخذ نفسا عميقا من أرجيله تشتكي ظلم الزمن وحرارة الجمر؛ بعضهم يرتشف بين الحين والحين قطرة من شراب الشاي قاتم الحمرة والغارق في بحر من سكر القصب. آخرون في شرود ووجوم عميق يدخنون بشراهة متناهية، وتظهر فتحتا أنوفهم وكأنها مداخن في بلاد جليدية يشبهون إلى حد بعيد التجار الذين غرقت سفن تجارتهم، وأصبحوا بـلا مال، ولا بـنين، ولا أصدقاء. الدخان يتطاير في كل الأنحاء كأنه سحاب هارب ومطارد، والمذياع يبث الموسيقى والأخبار التي لا تسر، حروب في كل موقع ومكان. جلس بجانبي بعد أن مسح مكان جلوسه بكلتا يديه، في حين بقيت الابتسامة لا تفارق محياه. يلتفت يمينا وشمالا، تبرق عيناه كلما اصطدمت بالنور الآتي من الخارج. سـألته بعد أن أخذت نفسا عميقا وتأكدت بأنه هادئ السريرة: "ماذا تعني بشجع طفلا، لا تشجع كهلا؟" جاء رده سريعا، تماما، كما جاءت إجابتي: "ما فائدة تشجيع كهل هرم رجل على الأرض ورجل في القبر، الطفل يعني المستقبل، المستقبل يا أخي". سـألـته بهدوء تام: "هل أشبعنا الكهول تشجيعا أم مـاذا؟" قال: "الكهول، الكهول هم مثل الفاكهة الناضجة تدعوك لأكلها وإذا لم تستطع إغراءك سقطت من نفسها ذوت من ثم وانتهت، هذا كل شيء". توقف فجأة ثم قال: "كنت أعمل دائـما، أبـدع دائما، أشبع رغباتي الفكرية دائما بالاطلاع، الإطلاع على الجديد؛ تستوقفني الرمال عندما تتحجر في كتل صخرية، اللعنة عليها ببطء تتحجر، ببطء تتكون. إعادتها إلى عناصرها الأولية يتطلب نموا في العقل والجسد. اللعنة يمكنني حمل الماء في مشخال، اللعنة كل ما يتطلب مني فعله هو الانتظار حتى يتجمد الماء. اللعنة، الانتظار، الانتظار. الشمس تشرق لا خلاف في ذلـك. لا أحب الغروب، مخالفا بذلك كل من ينام لوقت متأخر من النهار من اجل أن يمتع نفسه بالغروب؛ الشروق يستهويني أكثر. آه، كم يسـتهويني الشـروق.

نعم كل العيون تنام، في الليل أو في النهار، ما علينا سوى الانتظار. الشروق أحب إلي. الشروق أحب إلي" ثم ضحكات صارخة تنطلق منه تملأ المكان وصرخة عالية: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".

هدأ، بعد أن اخرج كم هائل من الكلمات كانت تعذبه وكانت عالقة على طرف لسانه، ثم بدت على محياه علامات الارتياح... لم اعلق على ما قال، بل، حاولت أن أسترجع حديثه، والتفكر فيه. جلست بهدوء ارتشف قطرات دافئة من كوب الشاي الذي أمامي وأنظر إلى البعيد تارة، وتارة أخرى أتابع حركات عينيه تتنقل من شخص إلى آخر بهدوء.

غرس أصبع من أصابع يده اليمنى في خاصرتي كأنه يريد لفت انتباهي إلى شيء ما، أمعنت النظر في وجهه من غير أن انبس بكلمة، ثم قال: "وباتوا حيارى تائهين بين عالم مات وعالم لم يولد بعد". هكذا تكلم "ماتيو ارنولد". و"كل ما تحت قبة السماء قابل للتطور. وأقل ما على الأرض ثباتا آراء الأفراد وعواطف الجماهير". وهذا قليل مما قاله "هوفمن". ومن الحكم اليونانية، "وإذا أرادت الآلهة بإنسان شرا زادته غرورا وكبرياء"، كما إن إحدى الأساطير اليونانية تقول: "وكان مخلوق ذو رؤوس متعددة كلما قطعوا منها رأسا نبت رأس. فلم ينقذهم منه إلا إله القوة". ترك المكان، وظل واقفا كمن يكلم نفسه. قال: "قال قيصر: من ليس مع خصمي فهو معي". ثم قال: "قال باكونين: والفقر اقوى ممهد للفوضى. والفوضى خير الأجواء لنمو أفكارنا". وقال: قال دانتي في جحيمه، ولقد وصلنا إلى حيث قلت لك انك تجد التعساء الذين طووا سني حياتهم من دون أن تهزهم الأريحية أو أن يقاوموا الشر والظلم واكتفوا من الدنيا بأن يكونوا أنانيين". تحرك وعيناي ترقبه، ويحتويني شعور عارم يود معرفته ومعرفة فكره؛ لم تكن خطواته مثقلة، كانت الخطوة تتبع الخطوة بكل جرأة. تحرك وهو يشدو: "ما أروعك يا دانتون حين نطقت حقا، وقلت: الخبز أول حاجات الشعب".

ارتفعت ضحكاته حتى وصلت إلى ابعد نقطة في المقهى، لم يعر كل من نظر إليه أي انتباه، قال وهو في حال نشوى راقصة ورائعة: "أتعرفون ماذا قال شيشرون؟"، تابعت العيون حركاته، وعلامات الدهشة بادية على محيا الجميع، ثم خيم الصمت على المكان. ثم تابع يقول: "لقد قال: ولم يعد في روما متسع لرجلين. فأما أن يستتب الأمر لغالب كاتيلينا. وأما أن تكون الغلبة للذي قطع النهر الحرام".

تحرك من مكانه بضع خطوات وصرخ وكأنه خطيب مفوه بين جموع غفيرة متعطشة لإظهار الحق وإعلاء كلمته: "ما شككت في الحق مذ رأيته".

هدأ من جديد ولم تمض سوى لحظات على هدوئه، وإذا بأربعة رجال ينقضون عليه ويلبسونه قميصا أبيض، يقيدون به معصميه إلى ظهره، وهم ينطقون بكلمات الأسف: "نرجو أنه لم يسبب لكم أي إزعاج، فمن هم على شاكلته مكانهم مستشفى الأمراض العقلية. أنه مجنون!".

أخذوه مقيدا، وكان يقول بصوت هادئ: "هكذا تكلم فريرو: الخوف مصدر الكوارث".

ما أن اختفى في الزحام حتى ضج المقهى بالهرج والمرج هذا يصرخ: "الحق يعلو ولا يعلى عليه" ويؤكد الجميع مرددين: "الحق يعلو ولا يعلى عليه". آخر يردد بصوت عال: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" وذاك ينشد "أبواب الحرية لن تغلق" واشتد الحماس بكل رواد المقهى ولم يزل يشتد حتى رأيت نفسي أخلع غطاء رأسي وأرميه على الأرض وأنزل مع الجميع إلى وسط المقهى نصرخ ونردد مع بعض: "الحرية، الحرية، لا، لا، للعبودية. الحرية الحرية" وهكذا دام الأمر لفترة ليست بالقصيرة حتى سمعت أحد المارة يصرخ ويشير علينا: "مجانين وربي مجانين"





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً