ليس ضربا من ضروب المفاجأة أن نجد البحرين بشهادة عدة مؤسسات حقوقية دولية محايدة، وآخرها لجنة حماية الصحفيين، تشهد تراجعا كبيرا في حرية الصحافة والإعلام. فتنامي حملات التضييق على المواقع الإلكترونية وعلى الصحافيين وحتى بعض البرامج التلفزيونية لم تترك مجالا لمدافع أن يدافع عن واقع الحريات في المملكة العزيزة. وهذه النقطة الحرجة هي التي حذر المهتمون من النكوص إليها بعد أن بدا البعض يحسدنا على ما كسبناه من بعض مساحات في حرية الكلمة.
لن ألوم هنا من كانوا «يمنّون» على الشعب بهذه «النعمة»، ويعيّرون ويهددون على الدوام بزوالها، بل وصل بهم المقام إلى تحريض السلطة علنا على سلبها ممن «لا يستاهلون». ولكن من الحق أن نلوم من لا يزال يطبل ويخرج كل يوم يتباهى بحريات مطلقة لا يحصل عليها كائن بشري في الدنيا.
الرسالة التي بعثتها لجنة حماية الصحفيين إلى عدد من كبار المسئولين في المملكة قبل أيام، كشفت للمسئولين في البحرين وللعالم الكثير مما يعرفه الناس العاديون ويحيطون بكل تفاصيله. فلا حاجة لاختراع «ياباني» من اجل أن يكتشف المواطن أن مسئولين في وزارة الثقافة والإعلام حجبوا أكثر من ملتقى بحجة أنه يثير الفتنة الطائفية في حين مازالت ملتقيات شبيهة بل أكثر إثارة وتأجيجا مفتوحة على مصراعيها تسرح وتمرح.
ولا حاجة لصاروخ فضائي يخترق الكرة الأرضية ليثبت للشاب البسيط أن المواقع الإباحية مازالت متروكة على عواهنها ومخاطرها لمن هب ودب، في حين يزعم نفس المسئولين في الوزارة أن حملات حجب المواقع تطال في غالبيتها مواقع إباحية.
إذا... كل المسألة أن بعض المسئولين ينظرون بعين عوراء لتحجب ما تريد السلطة حجبه، وتغض الطرف عما تريد تمريره، أو على الأقل لا يهمها إن تم حجبه أم لا. هذا ما تؤكده الرسالة الأخيرة التي ناشدت عاهل البلاد التدخل لإلغاء القرار الوزاري القاضي بحجب المواقع الإلكترونية الناقدة، وهو ما نتمنى أن يحدث قريبا.
سنعترف أن الحلقة الأخيرة للمذيع غازي عبدالمحسن عبر برنامج «في الميزان» كانت الضربة القاصمة للظهر بجرأتها التي حبذا لو راعت قليلا حداثة التجربة والحدود المسموحة، ولكن أن ينقلب البرنامج بعد تغيير المذيع والهوية رأسا على عقب، من واحةٍ لإنصاف المواطن وتنفيس الكبت إلى وسيلة ضغط حكومي أخرى تضاف للوسائل المتاحة الكثيرة، فهذا يدل على أن وراء الأكمة ما وراءها.
كنا نأمل تدارك الأمر والتركيز على تحديد بعض الخطوط الحمراء الضرورية التي لابد منها، وترشيد البرنامج إلى صورة انفتاحية أسمى وأشمل وأكثر واقعية وفاعلية وإنصافا، غير أن الحلقات الأخيرة (ما بعد التوقيف والتغيير) للأسف أخذت تنحو منحى مغايرا لمسمى وأهداف البرنامج، الذي نال شهرة لا بأس بها وجعل بعض البحرينيين أخيرا يجلسون لمشاهدة الفضائية البحرينية بعد أن ملوا من «طقطقتها» التي مل منها الصغير والكبير.
لنكن منصفين أكثر، فلنقل إن برنامج «في الميزان» مازال الطريق أمامه - وأمام كل برامج التلفزيون الأخرى - مفتوحا لإثبات توازنه وإنصافه للمجتمع البحريني وقضاياه، وهو ما يؤكده حتى الآن القائمون على إعداده. فالمواطن مهما تعددت مشاربه لا يبحث إلا عن صوت ينطق عنه وينقل معاناته بكل صدق وشفافية. وإذا كان الطرف المشكو هو الحكومة أو واحدة من وزاراتها السيادية مثلا فلسنا بحاجة لنقد ساحق وجارح يفتق ولا يرتق، كما أننا لسنا مضطرين بالمقابل إلى المداهنة والتطبيل والوقوف موقف المدافع عن الصح والخطأ.
ما يريده الناس هو إذا رأى الإعلام خطأ في الشارع فليرصده وينتقده انتقادا بناء، وكذلك إذا رأى خطأ في السلطة أن يرصده بحيادية وينتقده نقدا بناء، وبهذا تكتمل الصورة واضحة من أجل الخروج بعلاجات شافية لمشكلاتنا التي تختزن صيدلية الإعلام دواء الكثير منها.
لا تنكر الوزارة الجديدة ووزيرتها أن المشروع التنموي المنفتح لأي بلد يقرأ العالم مدى جديته على الشاشة الفضائية الرسمية، ويدرك من خلالها ما إذا كانت برامج هذه الشاشة تجاري المشاريع الإعلامية المنفتحة التي تجتذب المشاهدين في كل العالم ببرامج تعيش هموم المواطنين وتبحث عن حلول جدية تنتقد الظالم وتنصف المظلوم. أما بالعودة الإعلامية إلى حيث عدنا إلى المربع الأمني فعلى حرية الإعلام السلام.
وزيرة الإعلام بخبرتها الواسعة واختلاطها الاجتماعي تعرف بلا شك نظرة العالم المتحضر لطبيعة الحريات الإعلامية، وأثر هذه النظرة على الواجهة العامة لمملكة البحرين. لذلك لا نتمنى أن يضع «الآخرون» الوزيرة في زاوية حرجة، بالضغط عليها لتصدير المزيد من القرارات المكبلة للحريات الإعلامية والصحافية، وخصوصا أنها تمتلك شعبية كبيرة في المنطقة والعالم بسبب اهتماماتها في الحفاظ على التراث والثقافة، ما يعرضها حتما للمساءلة أمام منظمات المجتمع الدولي التي كانت ومازالت تكون معها علاقات وثيقة.
«الضربة التي لا تقصم ظهرك تقويك»... هكذا كان يقال لنا من أجل تحدي مصاعب الحياة. وها نحن نقولها للسلطة: الصراحة التي لا تزعزع الحكومة تقويها، والنقد الصريح والبناء الذي لا يُسقط السلطة يزيد من هيبتها. فلينتهي عهد الخوف من المكاشفة، ولتتعود البحرين على تقبل الرأي والرأي الآخر من دون مراوغات إعلامية.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 2408 - الخميس 09 أبريل 2009م الموافق 13 ربيع الثاني 1430هـ