وسط تصاعد الأزمة المالية واشتداد حدتها، يبرز المزيد من القراءات الجادة والهادفة لدراسة آليات الاقتصاد القائم في منطقة الخليج العربي، من أجل إلقاء الضوء على الحلول التي بوسعها التخفيف من الانعكاسات السلبية لتلك الأزمة على منطقة الخليج، بعد اقتناع، من تهمه مصلحة المنطقة ومستقبلها، أن تحاشي الأزمة بات أمرا شبه مستحيل، بغض النظر عن إدعاءات الكثير من المسئولين، ومحاولاتهم الهادفة إلى زرع الثقة في نفوس المواطن، تحت ذرائع ساذجة أحيانا، وواعية وبمقاصد مرسومة بدقة في أحيان كثيرة أخرى، بدلا من تحذير وإعداده لمواجهة تمظهر ما أصبح يعرف باسم «الأزمة المالية العالمية» على المنطقة الخليجية، وعلى وجه التحديد اقتصادياتها.
من بين أبرز تلك الدعوات الصادقة، تلك التي بدأت تحذر من اقتفاء أثر اقتصاد أطلقت عليه «اقتصاد الفقاعة»، والذي هو باختصار شديد سيطرة حالة غير طبيعية على العلاقة بين قيمة الكلفة وأسعار البيع، الأمر الذي يخلق مساحة شاسعة من الربح غير الطبيعي، تكبر بفعل العوامل المستجدة كي تتحول في نهاية الأمر إلى ما يشبه الانتفاخ الفقاعي في القطاع الذي يجسد قوانين وآليات أتساع تلك المساحة، والذي يقود حتما، نظرا لتعارضه مع القوانين المنطقية التي تسير الاقتصادات السليمة، إلى انفجار تلك الفقاعة، وانطلاق عواملها السلبية المدمرة التي تولد حالة قريبة من شلل كامل يقيد آليات ذلك القطاع، ويؤدي إلى تدهوره. وتفقد القوى المتحكمة في آليات الاقتصاد نفسه القدرة على الحد من جماح انفجار تلك الفقاعة، مما ينعكس على الاقتصاد برمته، وتنمو الحالة من حيز قطاعي محدود إلى اقتصاد دولة بكامله.
بعض هذه الدراسات، بدأ يدعو إلى العودة إلى ما يمكن أن نطلق عليه «الأساسيات»، والتي هي الإنصات إلى القوانين الأساسية لعلم الاقتصاد التي تضع كل عوامل بناء أي اقتصاد في حيزها الصحيح، وفي مكانها الملائم، كي تتمكن من إدارة العملية الاقتصادية وفق قوانين تقليدية أثبت التاريخ صحتها. البعض من هذه الدعوات الصادقة، بدأ يحث على العودة إلى الصناعات الإنتاجية التقليدية وتقويتها، وإعطائها المزيد من الاهتمام والأولوية في سلم الاستراتيجيات. البعض الآخر، شدد من تحذيراته من الاندفاع نحو الأخذ باليات الاقتصاد المقامر (مختلف عن المغامر VC)، الباحث عن فوائد فاحشة في فترة زمنية قصيرة، قياسا بالدورة الاقتصادية التقليدة لرأس المال.
كل تلك النداءات الصادقة، مدعوة اليوم، أن تخرج من إطارات، وبالتالي قوانين وآليات الاقتصاد التقليدي، بما فها دورة رأس المال، والالتفات نحو ما ولدته ثورة الاتصالات والمعلومات من عوامل جديدة، ذات علاقة مباشرة بقوانين وآليات الاقتصاد، تتمحور جميعها حول تحول «المعلومة» إلى سلعة تخضع لقوانين السوق من حيث العرض والطلب، وعلى مستوى سعر القيمة المضافة المتولدة من معالجة المعلومة بوصف كونها سلعة تباع وتشترى، بعد أن كانت في الاقتصاد التقليدي مجرد مادة تساعدنا على اتخاذ أفضل القرارات.
وكانت الخطوة الأولى على طريق ذلك التحول، هو الجهد المبذول في تحويل الحقائق، بعد جمعها، من مادة ساكنة صماء ذات فوائد محدودة، إلى معلومة متطورة، تملك قابلية التفاعل وتمتلك مقومات استيعاب وبث البيانات التي زرعت القيمة، ومن ثم السعر في تلك الحقائق.
الخطوة النوعية التي تلت ذلك، هو انتقال المعلومة الكيفي، وليس الكمي، من الحالة التفاعلية، المحدودة أيضا عندما نقارن بين المعلومة والمعرفة، إلى الحالة الديناميكية المعرفية التي تمتلك فيها المعلومة كل عناصر ومقومات التوليد الذاتي للقيمة المضافة من خلال تفاعلها الحي مع البيئة الاقتصادية المحيطة بها، صناعية كانت أم تجارية. حينها فقط يضع الاقتصاد التقليدي أو المعلوماتي، كمرحلة أرقى، أول أقدامه على طريق الاقتصاد المعرفي، الذي يعرفه البعض على أنه «الاقتصاد الذي يدور حول الحصول على المعرفة، والمشاركة فيها، واستخدامها، وتوظيفها، وابتكارها، بهدف تحسين نوعية الحياة بمجالاتها كافة، من خلال الإفادة من خدمة معلوماتية ثرية، وتطبيقات تكنولوجية متطورة، واستخدام العقل البشري كرأس للمال، وتوظيف البحث العلمي، لإحداث مجموعة من التغييرات الاستراتيجية في طبيعة المحيط الاقتصادي وتنظيمه ليصبح أكثر استجابة وانسجاما مع تحديات العولمة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وعالمية المعرفة، والتنمية المستدامة بمفهومها الشمولي التكاملي».
أما جمعية الاقتصاد المعرفي العربية، فتأخذ، كما جاء على لسان رئيسها عبدالله الصبياني، بتعريف البنك الدولي الذي يحصر الاقتصاد المعرفي في ذلك «الاقتصاد الذي لدى أفراده ومؤسساته العامة والخاصة القدرة على إنتاج معرفة جديدة والانتفاع الاقتصادي منها بغرض تحسين مستوى الدخل القومي وزيادة فرص العمل وتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة».
بقيت قضية مهمة تتعلق بحاجة الاقتصاد إلى عوامل تحركه، وتحميه، وهذا ما يرد به خبير المعلومات العربي، حنين محمد جمال حافظ حميض، على بعض من يحصر عناصر الاقتصاد المعرفي في إطار الاتصالات والمعلومات، حين يقوم بتحديد العناصر التي يقوم عليها ذلك الاقتصاد، والتي هي: بنية تحتية مجتمعية داعمة - وشبكة معلومات متطورة تستخدم تقنيات الحزم العريضة، وقدرة نسبة عالية من المجتمع على الاتصال عبر الإنترنت، وزرع حب التعلم المستمر في صفوف أوسع قطاع من المجتمع، وتأهيل مهارات صناعية محلية قادرة على هضم المعرف وإعادة تصنيعها، بعد معالجتها في هيئة جديدة تحمل في أحشائها قيمة مضافة، منظومة بحثية تمتلك كل المقومات الضرورية للبحث والتفاعل من خلال مد قنوات تلك المقومات بين مؤسسات البحث العلمي من جهة والمؤسسات الصناعية والإنتاجية من جهة ثانية.
كل هذه العوامل تتطلب من اقتصاديينا أن يلتفتوا نحو اقتصاد المعرفة فلعل فيه الإجابة الشافية.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2408 - الخميس 09 أبريل 2009م الموافق 13 ربيع الثاني 1430هـ