لا نعرف على وجه الدقة متى يأتي اليوم الذي نسمي فيه الأشياء بمسمياتها؟ عندها فقط سنكون سلسين في تطبيق القانون الذي من المفترض أن يتساوى فيه "الوزير بالخفير"، لا على طريقة المقولة المتداولة، الخاطئة والقائلة: "ما لله، لله. وما لقيصر لقيصر"، ولا ندري هنا أين يذهب نصيب العباد الآخرين بعد هذا التقسيم؟
حاولت أن أشرع بالكتابة عن "الساتر البحري" في المالكية، وعن كلمة "متنفذ" التي تنتشر في بلادي هذه الأيام بكثافة عبر الكتابات الصحافية، وتنتقل من أذن إلى أخرى في مقاهي الشيشة، وعلى مكاتب الموظفين وتنسج عليها قصص بعضها بزيادة بهارات، وبعضها الآخر لا يخلو من الصدق؛ غير أن الأفكار تزاحمت والأسئلة تكاثرت وتعددت حتى بدا لي استحالة بما أبدأ؟ وكيف أحدد المهم من الأهم والضروري من الأكثر ضرورة؟
يبدو أن كل الطرق تدعونا إلى الكآبة. فمن جريمة الزحف الهمجي على السواحل وردمها، والتهديد بالمزيد، وحرمان العباد العاديين من ارتيادها، إلى الجزر المملوكة لمن تجمعهم كلمة "متنفذ" اللعينة؛ إلى الاستيلاء على الأراضي، إلى القوانين التي تحمي "المتنفذ" والتي تصونه من حساب الدنيا؛ إلى وإلى... حتى آخر تصريح لوزيرة الشئون الاجتماعية فاطمة البلوشي، الذي اعتبرت فيه: "الاعتصامات والاحتجاجات... دعوات للطائفية!". ولا أجد تفسيرا لربط حركة شعب حي يعترض بالطائفية، وكأن الوزيرة تريد قتل الشعر والحب والإصرار والتحدي لهذا الشعب حتى يكون بليدا من جمعية "نعم" السياسية المعروفة التي ترى أن كل القرارات التي تنزل من "فوق" منزهة تقتضيها الضرورة، تماما كما في الطرفة العراقية عن صدام حسين حين كلف عزة الدوري لكشف المعارضين لنظامه المقبور... ولولا فقدان جمالية الطرفة عندما تتحول من العامية إلى الفصحى، ولولا كلماتها التي تخدش "الحيا" لحكيتها عبر هذه السطور.
ما يجري في البحرين مرفوض عند الناس الفقراء، وعند جل الجمعيات السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني بيمينها ويسارها، ومن يقول غير ذلك لا يشكل واحدا في المئة من جموع الناس البسطاء. تقرأ خبرا بعنوانين منفصلين "أحدهما رفيع والآخر رئيسي" نشرته "الوسط" الثلثاء الماضي يثير الفزع لمن يقرأ الممحي؛ الرفيع يقول: "عبدالعال اعتبر المجلس عاجزا عن القيام بذلك"؛ أما الرئيس فيقول: "بلدي الشمالية يقرر إيقاف جدار العزل على ساحل المالكية"، بينما في داخل الخبر تقرأ التعليقات وقرارات مجلس بلدي الشمالية. وتكررت كلمة متنفذ ثماني مرات بالتمام والكمال في الخبر، وذكر أن العمل يجري بمعدل 24 ساعة لإنجاز "جدار برلين" الذي انهار هناك ويبنى هنا!
غير أن أسئلة ستبقى حائرة من بينها: لماذا لم يذكر اسم المتنفذ الذي يدور حوله الجدل؟ أي لماذا لم نسم الأشياء بمسمياتها، ونعرف بالأسماء من هم المتنفذون، ولماذا هم متنفذون، وكيف تنفذوا، ولماذا لم يطلهم القانون، وعلى أي أساس بني النائب جاسم عبدالعال اعتقاده بأن المجلس البلدي ليس لديه القوة لإيقاف المتنفذ؟ ولماذا قرر عبدالعال بكلامه الخطير المنسوب إليه: بـ "أن الحكومة بذاتها عاجزة عن تطبيق القانون في هذه المخالفة؟!".
إذا كان المجلس البلدي، والحكومة بكامل الأعضاء، لا يستطيعون إيقاف "متنفذ"، فمن الذي يستطيع إيقافه؟ ولماذا يكون ذلك ولم لم يكن غير ذلك، بينما صحافتنا تتحفنا يوميا بأننا نعيش في بحبوحة دولة المؤسسات والقانون؛ فنصدق من ونكذب من في هذه الحال؟!
لا أعتقد، ولا يعتقد غيري أن المادة "45" من مجلسي الشورى والنواب الشورى أولا ونواب الشعب ثانيا وهي المادة التي تعنون بـ "عفا الله عما مضى!" تمنع البرلمان من المساءلة والمحاسبة لهذا المتنفذ الذي يبني من دون ترخيص ويستكثر على الناس دخول البحر أو التمتع بجماله، أو لعب أطفال المالكية على سواحله؛ لأن الواقعة حديثة العهد وجاءت بعد ثلاث سنوات من الفصل التشريعي الأول، فلا عذر للحكومة، ولا للبرلمان، ولا للدستور، أو أي قانون "عتيق" حتى وإن كان خارجا من رحم قانون أمن الدولة "حبيب الجماهير!".
لنخرج من المالكية ومشكلاتها و"اعتصام مواطنيها الطائفي"، إلى "فشت الجارم"، إذ كنت في رحلة صيد "تطفلية" قبل أسابيع بالقرب من ثلاث جزر اصطناعية "يعني مردومة" اثنتان منهما ترابية، أي من دون زرع وضرع، والثالثة بضرعها وزرعها، وشاليها، وكهربتها ومياهها العذبة التي تحلى من البحر، وعلى هذه الجزيرة الخضراء حمام ودجاج وعاملان بنغاليان طيبان بحسب معلومات البحارة، لا يهم، المهم، لابد من الفضول الصحافي أن يتحرك بالأسئلة؛ سألت: لمن هذه الجزيرة؟ ملك عام أم خاص؟ الأول أفتى بأنها لـ "فلان"، والآخر فنده لأنه لم يعرف إلا اسمه الأول، ولم يعرف موقعه الاجتماعي، فقلت لهما يعني صاحبها متنفذ و"عند عبود الخبر اليقين...". وعبود هذا بحار شاطر ويعرف عن فشت الجارم قطعة قطعة، وعلى رغم سنه فهو فضولي وكثير الأسئلة، ولا يقتنع إلا بعد أن يحصل على الجواب الشافي. ذهبنا إليه وحصلنا على "الخبر اليقين"، وروى لنا قصص الجزر الثلاث، من بينها جزيرة المتنفذ المملوءة بالضرع والزرع، وكان "عبود" حقا أفضل من "جهينة".
تعرفون من يملك الجزر الطبيعية والاصطناعية، بالتأكيد تعرفون سماعا وبالوشوشة في الآذان، على طريقة العمل السري، لكننا على الورق نكتفي بكلمة "متنفذ"، وما أكثرهم في بلادي، وإن تجرأ أحدنا بكتابة اسم "المتنفذ" فإن سلطتين تمنعانه عن الكلام، وهما: سلطة الرقيب الذاتي، وسلطة من بيدهم قرار النشر، والسلطتان معذورتان، والأمر متعلق بسقف الحريات... والبقية تعرفونها.
المتنفذون إذا هم الذين يغرقون البلاد في بحر الظلم والفساد، ويقذفون بإنسانية المواطن في أحضان المجاعة والهمجية، وما نخشاه حقا، أن تزداد هذه الفوارق الطبقية إلى ذروة التناحر، ما يزيد الاحتقان، ويفجر المجتمع، والتاريخ يروي حكايات كثيرة لم تنفع فيها مقولة "ما لله لله، وما لقيصر لقيصر" الخاطئة، وغير العادلة بتجاهل نصيب الناس
العدد 1005 - الإثنين 06 يونيو 2005م الموافق 28 ربيع الثاني 1426هـ