طيلة سنوات الثمانينات والتسعينات وحتى هذه الاعوام القليلة الماضية، كان خبر افتتاح شركة جديدة أو مصنع لابد ان يذيل بهذه البشرى: يوفر كذا فرصة عمل.
واحيانا تزيد الكلمات: "نسبة البحرنة فيها كذا". لكن هذا كله لم يكن كافيا للاطمئنان بأن اقتصادنا ينمو بوتيرة توازي زيادة عدد السكان او الايدي العاملة، 6 آلاف خريج ثانوية عامة كمعدل سنوي. والنتيجة انه عندما جاء اوان الحديث الصريح عن اوضاعنا الاقتصادية والمعيشية، اكشتفنا ان هذه الطريقة الدعائية في التعامل مع الاقتصاد كانت تخفي وراءها ازمات تتفاعل وتكبر يوما بعد آخر.
دراسة "ماكينزي" حركتها مقاربة جريئة في التصدي لمشكلاتنا الاهم: الاقتصاد، البطالة، النظام التعليمي، وليس العيب في ان نستقدم شركة استشارية اجنبية، بل الخطأ هو الركون لمقاربة وحيدة فقط.
طرحت دراسة "ماكينزي" في ندوة استغرقت يوما كاملا وضمت جميع الفعاليات: الاقتصادية، السياسية، ممثلو منظمات مجتمع مدني بمن فيهم ممثلو احزاب المعارضة. وكان المأمول ان تكون تلك الندوة بداية لنقاش واسع وعريض على المستوى الوطني لهذه الخطة، لكن ما جرى هو ان غرفة تجارة وصناعة البحرين فقط التي أبدت تصوراتها حول الخطة.
لم تعرض الخطة للنقاش على مستوى البلد ولم تعرض بقية قطاعات المجتمع رأيها في الخطة. ومنذ اطلاقها وحتى اليوم لم اتمكن انا شخصيا من الاطلاع على نسخة منها سوى ملخص تم توزيعه في وقت مبكر قبل الندوة في سبتمبر/ ايلول من العام الماضي. على هذا لم اتعرض للخطة ابدا لانني لا املك تفاصيلها، أما هذه السطور فهي تعليق على الطريقة التي تم التعامل بها مع خطة يفترض ان تمسنا جميعا وتمس اجيالا قادمة.
اولا، من الخطأ الركون لدراسة وحيدة وكان من المفترض ان نلجأ الى ابسط ما تفترضه البديهة في هذا الصدد: رأي ثان وثالث ايضا. فعندما يكون الاقتصاد هو الموضوع ومستقبل اجيال من ابناء البلد، يقتضي الحس السليم الاستماع الى اكثر من رأي واستعراض اكثر من مقاربة.
وهذا من جهة أخرى يقترح علينا امرا آخر. كان بإمكان الرأي الثاني والثالث ان يكون صادرا من اقتصاديين بحرينيين. لست متعصبا ضد الاجانب بل على العكس ارى ان علينا ان نتعلم منهم ابرز فضائلهم: الاسلوب العلمي في التفكير والتخطيط. ابرز منجزات الاسلوب العلمي الغربي في التخطيط هو اسلوب "مجموعات التفكير" او "معاهد التفكير" او "خلايا التفكير" التي تعني بالاصل "Think tanks".
هذه المفردة لاتزال تخلق قدرا من الابهام لدى سماعها وما ان تتردد الا ويتبادر الى اذهان الكثير انها لن تزيد عن طلب الاستشارات. وفي بلد يعد مركزا ماليا متقدما في المنطقة، يتعين عدم التهوين من شأن المزايا غير المحدودة للمناظرات والنقاش على المستوى الوطني الشامل التي يمكن ان يسهم فيها ليس عشرات من الكوادر الاقتصادية بل وجميع قطاعات المجتمع المدني وحتى البسطاء من الناس. والبسطاء وغير المختصين قد لا يقدمون حلولا، لكن الاصغاء لهم قد ينبهنا الى مواضع خلل لا تخطر على بال. فمن كان بامكانه من اولئك الخبراء الذين وضعوا الدراسة ان ينتبه الى مفارقة اعتماد قطاع واسع من الناس اليوم على خدم المنازل: لخدمة عجائز العائلة او مرضاها. وكيف ان هؤلاء الخبراء وضعوا رسوما على استقدام الخدم وعمال النظافة تساوي الرسوم المفروضة على خبير اجنبي في تخصص نادر. الاصغاء لن يضر بل سيفيدنا اكثر مما نتوقع.
لقد دعي الجميع الى ابداء الرأي في الخطة وكان المأمول ان يكون النقاش على المستوى الوطني. لكن الجهة الوحيدة التي تقدمت بالرأي هي غرفة تجارة وصناعة البحرين والاتحاد العام لعمال البحرين. لكن الغرفة لا تمثل المجتمع بأسره بل تمثل قطاعا واحدا منه تماما مثلما هو اتحاد العمال. ومسألة الاصلاح الاقتصادي واصلاح التعليم لا تخص قطاعات الانتاج الثلاثة لكي نطمئن الى اننا استطلعنا الآراء جيدا وأدينا المهمة. وفي النهاية تم تقديم الخطة الى الحكومة مع بعض التعديلات وتم تبنيها تمهيدا لعرضها على البرلمان.
واذا كان العرض على البرلمان هو الفرصة التي ستتيح توسيع النقاش من حولها، فإن الوقت لم يفت لا لأخذ رأي ثان ولا ثالث ولا لتدشين اسلوب علمي جديد في التعاطي مع قضايا التخطيط بشكل عام. مازال بالامكان تدشين "مجموعات تفكير" اما من الحكومة أو بمبادرات من الاقتصاديين أو أي قطاع آخر
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1005 - الإثنين 06 يونيو 2005م الموافق 28 ربيع الثاني 1426هـ