لبنان متعثر في قيامته، في الوقت الذي يستعد فيه اللبنانيون لرسم صورة لبنان الجديد عن طريق صناديق الانتخاب، يقتل غدرا أحد الكتاب المرموقين في أحد أهم الصحف اللبنانية، وهو سمير القصير. يوم السبت كانت الجنازة التي مرت من خلف مكاتب مؤسسة الفكر العربي في بيروت باتجاه الكنيسة لتأبين الراحل مهيبة، لقد فوجئت وللمرة الأولى في خبرتي بمشهد المعزين خلف الجنازة التي حملتها سيارة إسعاف سوداء وهي تسير ببطء، وهم يصفقون بأيديهم تصفيقا رتيبا، وبعضهم كان يردد بهمهمة مسموعة أغاني وطنية.
قال لي صاحبي إنها جنازة لتبكي التسلط من جهة وتنادي بفجر الحرية من جهة أخرى، من قتل القصير معروفون، هم أعداء الكلمة، ونحن نسير هنا خلف هذا النعش لا لنبكي بل لنحتفل بمن يدفع دمه ثمنا للحرية، وهو ثمن لن ينتهي باغتيال الرئيس الحريري أو غيره من السياسيين والكتاب، انه ثمن قد ندفع أكثر منه في القريب العاجل، ولا ضير في ذلك، لأن هذه الطريقة / الضريبة، التي نشقها للبنان أفضل في المستقبل.
لبنان حزين، صار له وقت طويل وهو حزين منذ التفجير الأكثر غلظة ووحشية في ذلك اليوم من فبراير/ شباط، الذي أودى بحياة من يعتبره كل اللبنانيين أملا للمستقبل، الذي قرر أن "المستقبل" هو الشعار الذي يجب أن يخوض اللبنانيون حربهم من أجله، ومن أجل المستقبل قتل رفيق الحريري، وبعده جرى في لبنان ما لم يجر في هذا البلد من قبل، انشل البلد، وتخوف قاصدوه من قصده، وضاق العيش على اتساعه، ومسلسل القتل لن ينتهي قريبا كما قال لي أحد المثقفين المطلعين على خبايا الأمور.
هل يعني مقتل سمير قصير أن الكلمة المكتوبة مؤثرة إلى هذه الدرجة من التأثير حتى أن عاشقها يجب أن يذهب إلى الدار الأخرى؟ وهل هو تعبير عن ثقافة عربية بعيدة كل البعد عن الحوار بالكلمة، إلى الحوار بالقتل والتصفية؟ قتل عدد من الصحافيين وهم يؤدون واجبهم في ساحات الصراع المختلفة، إلا أن سمير قتل وهو خارج من بيته ظنا منه أن المدينة آمنة، وهي ليست كذلك.
لا أحد يستطيع أن يقول إن قتل صحافي هو بسبب ثأر اجتماعي أو مال مختلف عليه، قتل الصحافي لا تفسير له إلا الضيق بالكلمة، والتبرم بالرأي الآخر، لذلك خرج اللبنانيون والجسم الصحافي بالذات، ليرفعوا هذه المرة أقلامهم فقط، راية أمام منكري الحرية، فكانت غابة الإعلام التي شرعت في ساحة الحرية تفوق غابة الغبار الذي نتج جراء التفجير ضحى الخميس الماضي في الأشرفية.
كثيرة هي التفسيرات التي سردت للتكهن عن الفاعل والمحرض متخذ القرار والمنفذ لجريمة اغتيال سمير قصير، وانتشرت رعدة في جسم حامل كل قلم، والتفسيرات كثيرة لا يستطيع عاقل أن يقرر بكثير من الصرامة من هم الفاعلون، وإلا اشترك أيضا في هذا الهيجان الكبير الذي سرى بين قطاعات مختلفة في المجتمع اللبناني.
إلا أنه من المؤكد في حمى وطيس الانتخابات أن ثمة من يرغب في تفجير لبنان من الداخل، وباستهداف شخصية لها موقف إعلامي وسياسي محدد، كان المطلوب أن تتجه التهمة لمن هم ضد مواقفه المعلنة والتي يقرأها الناس، كل الناس على الصفحة الأولى من "النهار".
الطبقة السياسية في لبنان وهي طبقة عريضة مشتتة المواقف والمصالح، أو على الأقل القوى الفاعلة فيها مطالبة بأن تقطع المسافة بين القتل وصناديق الانتخاب بأقل ما يمكن من ضحايا، وأقل ما يمكن من تنافر بدا على وجوه الكثيرين وكأن المعركة هي معركة النهاية التي ليس بعدها نهاية.
في هذا الجو لا أحد رابح، الجميع خاسرون، حتى معركة الحرية التي خيضت أخيرا ستخسر، إن استمر الأمر كما هو من دون سقف وطني مشترك. إلا أن البعض يرى أن مقتل الصحافي قصير، هو مقدمة لمعركة كبيرة وليس نهاية لمعركة ومأساة، معركة لها علاقة بما هو أهم وأكبر من لبنان، تتسع لتطول الوضع في الشرق الأوسط المنكوب برمته.
عنوان المعركة الفرعي هو سلاح حزب الله، وهي قضية إن لم يستطع اللبنانيون تقديم حل ناجح لها قد تنفجر في وجه الجميع، وهي معركة بكل التسميات إقليمية ودولية، فليس المطروح، كما كان في الحرب السابقة، تهجير القوى الدخيلة "الفلسطينيين وقتها" بل المطروح صراع حاد على الدور أو الأدوار التي يمكن أن تلعب بين الأطراف المختلفة، وخصوصا انه جرى ترتيب الاستقطاب الطائفي وحتى المذهبي من جديد في لبنان، وخصوصا المسيحي الإسلامي.
ويمكن أن يتطور الوضع إلى ما لا يحمد عقباه، لا يعود للمسيحيين في لبنان سياسيا أية قوة، ويمكن أن يحدث تدخل دولي واسع النطاق، وحتى موضوع التقسيم الذي يتخوف منه كل اللبنانيين، قد يطرح من جديد على بساط البحث.
رجلان في يدهما مفاتيح كثيرة للحل، إما بالتهدئة أو البحث عن مخارج جادة، وهما مار نصرالله بطرس صفير، البطرك المحترم وبعيد النظر، وحسن نصرالله الأمين العام لحزب الله، وهو شخصية بعيدة حاذق ومناور من طراز رفيع.
على أية قاعدة يتفق الرجلان يكون مرتكز لبنان الجديد، وعلى أية قضايا يختلفان عليها يكون المدخل للشقاق.
الطرفان مطالبان، وهما بالتأكيد واعيان، إلى عدم الارتكاز كليا على الخارج في رسم السياسة المستقبلية للبنان، لا على إيران، ولا على الولايات المتحدة، فكلا القوتين لهما أجندة خاصة بهما، وقد يتفقان في وقت ما بعد خراب لبنان أو قبله بقليل. الاعتماد على العقل والمصالح الوطنية والتوافق الاجتماعي قد ينقذ لبنان من المأزق، الذي كلما تأزم، دفع اللبنانيون من اللحم الحي الكثير من الأثمان.
تلك إطلالة على لبنان اليوم الخالي، تقريبا من نبض الحيوية، خوفا من أهل الخارج، وتهيبا من أهل الداخل
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1005 - الإثنين 06 يونيو 2005م الموافق 28 ربيع الثاني 1426هـ