بعد مناوشات وجدال مع الضابط المحقق في جريمة القتل الذي كان يرفض السماح بالتقاط صور للقتيلة في هذه المرحلة من التحقيق، نالت الصحافية الساعية إلى الإثارة والباحثة عن السبق الصحافي مبتغاها بالحصول على إذن بتصوير جثة القتيلة المشتبه في سلوكها والمجهولة الهوية، فذهبت بصحبة مصور الصحيفة إلى المشرحة لالتقاط الصور مبتهجة لاجتيازها ذلك العائق "البيروقراطي"، ولكن هذا الابتهاج سرعان ما انقلب إلى انكسار وحزن وانهيار معنوي أفقدها الوعي حين كشف عن وجه القتيلة، التي لم تكن سوى أختها الحبيبة! وحين أفاقت من هول الصدمة كان عليها اجتياز صراع نفسي معقد ومتشابك بين القيم الأخلاقية والأدبية والمهنية، نشأ نتيجة هذا الموقف الذي أجبرها على التأمل ومراجعة النفس وطرح الأسئلة، التي لم تفكر يوما في أنها ستجيب عليها، وربما مر عليها شريط الجثث وصور المتورطين في القضايا التي كانت تسعد بأسبقية نشر أسمائهم وصورهم في صحيفتها، من دون اكتراث بالضرر المعنوي الذي قد يصيب أقرباءهم وأصدقاءهم.
إن هذا ليس سوى مشهد من فيلم عربي، ولكننا يمكن أن نتخيل صورا شتى لهذا الصراع النفسي الذي قد يواجهه المرء في حالات كهذه، حين يجب عليه الاختيار بين الالتزام الأدبي والواجب المهني نتيجة لأفعال أقربائه. وأفترض أن هذا الصراع سيقود إلى السؤال الجوهري: أين يبدأ الواجب والالتزام المهني وأين ينتهي وما ضوابطه وحدوده؟
عموما، فإن القانون ولاعتبارات كثيرة منها المحافظة على كيان الأسرة واحترام خصوصيات الأفراد قيد رفع بعض الدعاوى الجنائية إلا بناء على شكوى شفهية أو كتابية من المجني عليه أو وكيله الخاص إلى النيابة العامة، أو إلى أحد مأموري الضبط القضائي في بعض الجرائم منها الزنى المنصوص عليه في المادة "316" والامتناع عن تسليم الصغير "318 عقوبات" والفعل المخل بالحياء مع أنثى "350" والقذف والسب المنصوص عليه في المواد "364" و"365" و"366"، وفي غيرها من النصوص، أخذ أيضا في الاعتبار صلة القرابة، فعلى سبيل المثال لا الحصر نصت "المادة 230 عقوبات" على عقوبة الحبس أو الغرامة لكل موظف عام مكلف أو عقوبة الغرامة لكل موظف غير مكلف بالبحث عن الجرائم أو ضبطها، أهمل أو أرجأ الإخبار عن جريمة اتصلت بعلمه أو أرجأ إبلاغ السلطة المختصة بجريمة علم بها أثناء تأدية وظيفته وذلك كله ما لم يكن رفع الدعوى معلقا على شكوى أو كان الجاني زوجا للموظف أو من أصوله أو من فروعه أو اخوته أو أخواته أو من في منزلة هؤلاء من الأقارب بحكم المصاهرة.
النشر والمساس بسير القضاء
لقد آثرت أن أبدأ بهذا المشهد ليشاركني الآخرون في تأمله ليس في تفاصيله، وإنما في العبرة المستخلصة منه، وطرح الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها، ولاسيما أننا في مجتمع صغير تنتقل فيه الأخبار بسرعة والنشر في الصحافة للشكاوى وأخبار رفع الدعاوى ونشر الأحكام القضائية ليس مقيدا إلا بما يتعرض فيه للآخرين بالسب والقذف والتشهير أو إذا كان النشر يخل بسير العدالة أو فيه مساس بسير القضاء، كما نص عليه قانون العقوبات.
ولإلقاء المزيد من الضوء على هذا الجانب القانوني لابد أن نحيل القارئ إلى نصوص قانون العقوبات وبالذات المواد "من 245 حتى 248" التي جرمت بشكل خاص: "القيام بالنشر بإحدى طرق العلانية أمورا من شأنها التأثير فيمن يناط بهم الفصل في أية دعوى مطروحة أمام جهة من جهات القضاء أو المكلفين بالتحقيق أو بأعمال الخبرة أو التأثير في الشهود الذين يطلبون لأداء الشهادة في تلك الدعوى أو ذلك التحقيق أو التأثير في الرأي العام لمصلحة طرف في الدعوى أو في التحقيق ضده - المادة 245" وكذلك "من ينشر بإحدى طرق العلانية أخبارا في شأن تحقيق قائم في جريمة أو وثيقة من وثائق التحقيق إذا كانت سلطة التحقيق قررت إجراءه في غيبة الخصوم أو كانت حظرت إذاعة شيء منه مراعاة للنظام العام أو للآداب أو لظهور الحقيقة، وكذلك مداولات المحاكم والأخبار بشأن التحقيقات أو الإجراءات في دعاوى النسب والزوجية والحضانة والطلاق والنفقة والزنى، وما يجري في الدعاوى الجنائية أو المدنية التي تقرر المحاكم سماعها في جلسة سرية أو منعت نشرها، وكذلك جرمت هذه المواد نشر صور المتهمين الأحداث، أو نشر أسماء أو صور المجني عليهم في جرائم الاغتصاب والاعتداء على العرض - المادة 246" وكذلك "نشر ما يجري في التحقيقات أو الإجراءات المتعلقة بجرائم القذف والسب وإفشاء الأسرار". ونصت هذه المواد على أنه لا عقاب على مجرد نشر موضوع الشكوى أو على مجرد نشر الحكم وذلك بشرط أن تكون هذه الدعاوى مما يجوز فيها إقامة الدليل على الأمر المدعى به، وإلا فإن إعلان الشكوى مع عدم جواز إقامة الدليل على الأمر المدعى به يعاقب بالحبس ما لم يكن نشر الحكم أو الشكوى حصل بناء على طلب الشاكي أو بإذنه "المادة 247 عقوبات"، وحتى "نشر ما يجري في الجلسات العلنية بغير أمانة وبنية سيئة يعاقب عليها القانون بالعقوبات المتقدم ذكرها وهي الحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة التي لا تجاوز مئة دينار - المادة 248 عقوبات". ولمعرفة مفهوم العلانية والأحكام الخاصة بالجرائم التي تقع بطرق العلانية لابد من الرجوع إلى "المواد من 92 إلى 98 عقوبات".
مما سبق نجد أن المشرع وضع قيدا وسياجا على النشر فيما يخص هذه المسائل، لا لكي يقيد حرية النشر والتعبير بل لكي يحمي المصالح العامة للمجتمع ويكفل استقراره من خلال حماية الحقوق الخاصة بالأفراد وخصوصياتهم التي يكفلها القانون، ولكي يضمن عدم استغلال المنازعات المدنية بين الأفراد أو الجرائم المعروضة على القضاء، كمواضيع أو مواد للاستهلاك الصحافي بصورة تضر بمراكزهم القانونية ولكي لا تكون الدعاوى عرضة للإسقاطات العاطفية والمهاترات والتسييس أو لمحاولات التأثير على من يناط بهم الفصل في الدعاوى المطروحة أمام جهة من جهات القضاء أو وسيلة للتشهير والإضرار المعنوي بالأفراد.
ومع إيماننا بحرية طرح مختلف وجهات النظر وتوجيه النقد إلى أعمال السلطات العامة ذات التماس المباشر بحياة المواطنين، فإن تعرض بعض الكتابات بالنقد للأحكام الصادرة من المحاكم أو قيامها بالتشهير بأطراف في هذه القضايا أو النزاعات التي لم تحسمها بعد الجهات القضائية، يمس بسير القضاء ويخل بسير العدالة، وقد لا يصل هذا المساس إلى حد الإهانة التي نصت عليها المادة "216 عقوبات" ولكنه جدير بالمراجعة. ولست هنا بصدد الدفاع عن أية جهة أو للدعوة إلى الحجر على حرية الصحافة والنشر والتعبير التي أقرها الدستور ونظمها القانون، أو منع نشر مشكلات الناس وقضايا الفساد الإداري والمالي لتصل إلى الرأي العام أو لوضع الحلول لمعوقات إدارية تعاني منها هذه أو تلك من الجهات القضائية، ولكن للفت الانتباه لبعض المسائل الجديرة بالاهتمام فيما يخص نشر أخبار عن القضايا التي ينظرها القضاء أو يصدر أحكاما فيها
إقرأ أيضا لـ "أنور الحايكي"العدد 1004 - الأحد 05 يونيو 2005م الموافق 27 ربيع الثاني 1426هـ