العدد 1004 - الأحد 05 يونيو 2005م الموافق 27 ربيع الثاني 1426هـ

العلاقة بين تأهيل الكوادر السياسية وبناء الديمقراطيات العريقة!

محمد حسن العرادي comments [at] alwasatnews.com

منذ أن دخلت البحرين عصر الانفتاح السياسي، أصبح العمل السياسي أكثر حرفية وشفافية، فتراجعت إلى حد بعيد البيانات والمعلومات المجهولة المصدر، وكادت أن تنتهي نظرية القيادات التاريخية التي لا تتغير، وانتظمت إلى حد بعيد عملية المحاسبة في المؤتمرات السنوية والجمعيات العمومية، وأصبح ضخ الدماء الجديدة في مجالس إدارات الجمعيات والتنظيمات السياسية ظاهرة صحية، تثبت قدرة التنظيمات والتيارات المختلفة على خلق كوادر جديدة تتناسب مع متطلبات المرحلة.

ومن دون شك فإن هذه البديهيات الأساسية تمثل مسلكا حضاريا مهما سيساهم في وضع الأسس الصحيحة للعمل السياسي الذي ظل حبيسا لنظريات العمل السري طوال عقود من الزمن بفعل الضربات الأمنية المتلاحقة التي عمدت إلى تقزيم العمل السياسي في بلادنا، وساهمت في وأد كثير من التجارب التي كان يمكن أن تكون في المقدمة لو أتيحت لها حرية الحركة والتنظيم في ظل ظروف تختلف كليا عن الظروف التي نعيشها اليوم.

لقد عانت حركتنا السياسية من سطوة الأجهزة الأمنية التي كانت تتفنن في توزيع القمع على التيارات السياسية السرية بالتناوب، وكان ذلك يجعل هذه التنظيمات في حاجة ماسة ودائمة لإعادة بناء التنظيم السياسي ربما أكثر من مرة في كل عقد من السنين. واليوم بعد أن توقف هذا النزيف، لم تتمكن التيارات السياسية من مداواة جروحها التي عانت منها طويلا، وسواء تعلق الأمر بالتنظيمات والتيارات السياسية ذات الصبغة الوطنية أو الإسلامية، فالجميع يشكو من قلة الكوادر وندرتها، مقابل حجم العمل الكبير المطلوب إنجازه في وقت قصير، حتى تتمكن هذه الحركات من إعادة تنظيم نفسها وفق قواعد وأسس جديدة لم تتعود عليها من قبل.

وإذا كان من المناسب الحديث عن إعادة تأهيل ضحايا التعذيب وسجناء الرأي وحرية التعبير الذين احتضنتهم السجون في عز شبابهم حتى هرم البعض منهم بداخلها، وهرم آخرون في المنافي البعيدة، فإن الجمعيات والتنظيمات السياسية هي الأخرى قد تكون بحاجة إلى إعادة تأهيل من نوع خاص.

وكلنا نعرف أن السلطة السياسية في البلاد، وخلال الثلاثين عاما الماضية، كانت تعمل على إعداد الكوادر السياسية الحكومية القادرة على إدارة شئون الدولة في المجالات كافة، وأنها استخدمت كل الموارد الطبيعية والمالية والعلاقات السياسية والدولية الطيبة مع مختلف دول العالم والمنظمات الدولية لإنشاء طبقة من الإداريين والسياسيين والاقتصاديين القادرين على حماية مصالح الحكم والدفاع عنه، وهذه الفترة هي ذاتها التي عانت منها التنظيمات السياسية وقاست الأمرين، من الأجهزة الأمنية المطلقة اليد والمحمية بقانون ومحكمة أمن الدولة السيئ الصيت والسمعة.

وهكذا في الوقت الذي كان فيه السياسيون المعارضون لنهج الحكم مطاردين في بلاد الله الواسعة، تلاحقهم الاتفاقات الأمنية، وتطردهم المطارات والحكومات والأنظمة المتعاطفة مع بعضها بعضا، كانت الحكومة ترسل البعثات والوفود لدراسة نظم الحكم والإدارة الحديثة في أرقى الجامعات وأكثرها تقدما.

ولم تكتف الحكومة باستفرادها بهذه الفرصة طوال السنوات الماضية، بل إنها في كثير من الأحيان نجحت في إحداث اختراقات كبيرة ومؤثرة في صفوف المعارضة بألوانها، ما أدى إلى استقطابها الكثير من الكوادر السياسية التي عملت القوى السياسية والمعارضة على صقل مهاراتها وتدريبها وفق إمكاناتها المتاحة، والعلاقات التي استطاعت تكوينها مع الدول المتعاطفة معها، من خلال استخدام وتوظيف المال العام والإغراءات التي يسيل لها اللعاب.

لكننا اليوم نعيش نتاج وإفرازات بعض التوجهات والسياسات الخاطئة التي ساهمت في تخريج الكثير من المتنفذين المتمصلحين من مواقعهم على حساب مصلحة الوطن والمواطن، وما هذا الفرز الطائفي والتمييز الذي طال غالب المؤسسات الرسمية، إن لم يكن جميعها، إلا نتيجة حتمية للاستفراد برسم السياسة العامة للدولة، بعيدا عن وجود الصوت المعارض الذي يساهم في قرع الجرس والتحذير من الوقوع في المحظور.

ترى هل آن الأوان لمراجعة هذه الحقبة، ودراستها بشكل يساهم في تشخيصها بدقة ويرسم الحلول المناسبة للمشكلات التي خلفتها، ذلك أن الانفتاح السياسي الذي قادة عاهل البلاد لن يكتمل ما لم تكن هناك قوى سياسية قادرة على الجهر باعتراضها عاليا، وتبيان أوجه اختلافها في كل الأمور الحياتية والمعيشية والسياسية التي تمر بها بلادنا، لأن المعارضة الواعية تمثل ضمير الأمة الذي لا ينام ولا يغفل، وهذا هو ما نحتاج إليه اكثر من أي وقت مضى.

لذلك، فإننا بحاجة إلى زيادة الوعي السياسي بين كوادر وقيادات الجمعيات والتنظيمات والتيارات السياسية في البلاد، وليس من الحكمة أن يحاصر العمل السياسي المعارض وينحصر فيمن فرضت عليه ظروف القهر والإبعاد الاشتغال بالسياسة فأتقنها حتى ولو رغما عنه، أو لأنها كانت الخيار الوحيد المتوافر أمامه، لأن هذا الجيل الذي يشكل الصف الأول من المعارضين السياسيين لن يبقى مخلدا للأبد، ولن يكون بمقدور التنظيمات السياسية مجاراة السلطة السياسية في إبراز وتأهيل الكوادر السياسية القادرة على قيادة الرأي الشعبي وتشكيل الوعي السياسي المبني على الأسس العلمية في تأسيس وتسيير العمل السياسي إن استمر الوضع على ما هو عليه الآن.

من هنا فإننا نعتقد بأهمية أن تلتزم حكومة بلادنا باتاحة الفرصة للجمعيات والتنظيمات السياسية لتدريب وتأهيل المزيد من الكوادر القيادية الخاصة بها في مجال العمل السياسي المنظم بصورة علنية، وأن يتم ذلك عبر توفير المنح والبعثات والدورات والورش التدريبية السياسية المؤهلة لهذه الكوادر في المعاهد والأكاديميات العربية والدولية المتخصصة في إعداد القادة ومدارس الكادر الحزبية المختلفة.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن المعهد السياسي الذي اعتمدت الدولة إنشاءه أخيرا لا يجب أن يكون حكرا على العناصر والشخصيات المحسوبة على المؤسسات الرسمية فقط، بل إن هذا المعهد يجب أن يفتح أبوابه لاستقبال أعضاء الجمعيات السياسية المعترف بها بموجب القوانين والأنظمة المعمول بها رسميا.

كما أن الدولة مطالبة بتوفير دعم مالي مناسب للجمعيات السياسية حتى تتمكن من مجاراة التقدم الكبير الذي حصل على صعيد القيادات الرسمية طوال السنوات الماضية، لأن ترك الموضوع للتبرعات والدعم الذاتي سوف لن يمكن هذه الجمعيات والتنظيمات من إعداد كوادرها بطريقة تتناسب مع العصر الديمقراطي الذي توشك البلاد على دخوله.

إن من المفيد التفكير في الاستفادة من سياسة التفرغ التي قامت الدولة باعتمادها خلال السنوات الماضية، فكلنا نعرف أن هذه السياسة التي انطلقت منذ أكثر من 15 عاما قد أفرزت عددا من المتفرغين للأعمال الفنية والأدبية والرياضية أيضا، ثم انسحبت حديثا على مجال العمل النقابي فأصبح لدينا متفرغون للعمل النقابي. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لا يكون لدينا متفرغون في مجال العمل السياسي أيضا؟ وخصوصا أن هذا النوع من التفرغ هو من النوع المؤثر في مجرى الحياة اليومية للناس بصورة مباشرة. فإذا كنا فعلا جادين في تطوير التجربة الديمقراطية في البلاد، وإذا كنا نريد أن نتجاوز سنوات القهر والقمع بشكل سريع حتى نلتحق بركب الدول ذات الديمقراطيات العريقة، فإننا حتما مطالبون بالتفكير في طريقة مناسبة للارتقاء بمستوى العمل السياسي في البحرين من خلال التعجيل بتخريج الكوادر السياسية القادرة على مواكبة التطور والانفتاح السياسي الذي ننشده ونتطلع إليه.

وليس هذا من قبيل النكتة وليس هو حلم ليلة صيف، لكنه محاولة جادة لطرح البديل للإسراع في تطوير العملية الديمقراطية في بلادنا، ذلك أن فتح المجال أمام الانتخابات البلدية والانتخابات البرلمانية يتطلب وجود أشخاص بمستوى المسئوليات التي يتطلبها العمل البلدي والتشريعي، وليس من الإنصاف القول إن من يدخل البرلمان أو المجالس البلدية سيتعلم، لأن البلاد حين تختار أشخاصا بحاجة للتعلم تصبح هي الضحية وبالتالي عليها الانتظار طويلا جدا.

لذلك، نريد من المترشحين للتصدي للمسئوليات البلدية أو البرلمانية أن يدخلوا أولا وقبل كل شيء في معترك العمل السياسي فيختبروا أنفسهم ويختبرهم الناس قبل الوصول إلى المقعد الانتخابي، حتى لا يتورطوا ويورطوا الناخبين معهم، لأنهم سيبقون في مقاعدهم 4 سنوات من دون تغيير، ولنا أن نمعن النظر في كثير من الأعضاء البلديين والبرلمانيين الذين دخلوا المجالس في دورتها الأولى، فكانوا كأن لم يدخلوها أبدا، وليتهم استراحوا وأراحونا من تعب متابعتهم من دون طائل.

وفي الوقت ذاته انظروا إلى كثير من المشروعات التي يطرحها بعض أعضاء البرلمان والمجالس البلدية ستجدونها تحمل في طياتها الضحالة وضيق الأفق وقلة الوعي والمعرفة بالدور التشريعي والرقابي المطلوب، وربما يميل معظمها إلى التفتيش عن مرحلة ما بعد المجلس: تقاعد، ضمان اجتماعي، إلخ.

من هنا، فإننا لا نريد أن نكون حقل تجارب لأحد، أيا كانت نواياه طيبة وسليمة، لأن النوايا الحسنة لا تدخل أصحابها إلى الجنة، بل إننا نريد أن نختبر العناصر المترشحة للعمل النيابي والبلدي في مواقع العمل السياسي أولا، فإذا وجدنا أن إمكاناتها وقدرتها على العطاء واستعدادها للمحاسبة والابتعاد عن المصالح الشخصية يتلاءم مع مصلحة الوطن والمواطن، قمنا باختيارها بعيدا عن العاطفة والطائفية.

وإذا وجدنا أنها من النوع الذي "لا يهش ولا يكش ولا ينش" ابتعدنا عنها واخترنا العناصر المناسبة للمرحلة التي نعيشها والمستقبل الذي نتطلع إليه، وصدق من قال "اللي يجرب المجرب عقله مخرب"، ونحن لا نريد لعقولنا أن تكون خربة ينعق فيها كل ناع وناعية.

إن مطالبتنا الحكومة بالعمل على فتح المجال لتدريب السياسيين وإقرار مبدأ التفرغ السياسي المدفوع الأجر من قبل الدولة، لا يعني أن الجمعيات والتنظيمات السياسية لا تتحمل دورا مهما في السعي لتدريب كوادرها وقياداتها السياسية، بل على العكس من ذلك تماما، فهي مطالبة بالعمل على تفريغ عدد مناسب من الكوادر لقيادة العمل التنظيمي كل في مجاله، وبحسب الإمكانات المتوافرة لديها حتى تسهم بشكل فعال في تعزيز الديمقراطية وأجواء الانفتاح السياسي، وفي الوقت ذاته فإن هذه الجمعيات مطالبة بممارسة أقصى درجات الضغط على الحكومة حتى تحقق هذه المطالب الحقة.

وهنا يجب ألا يشعر أحد من الجمعيات بأي نوع من الحرج من المطالبة باعتماد دعم مالي للتنظيمات والجمعيات السياسية، لأن الحكومة إن استجابت لهذا المطلب أعادت إلى الشعب جزءا من الحق وليس لها في ذلك منة، وإن امتنعت عن ذلك برهنت للجميع أنها تريد أن تستأثر بكل شيء. وكلنا يعلم بأن الدول ذات الديمقراطيات العريقة تتكون دائما من الحكم والمعارضة، وكلاهما يدافعان عن مصلحة الوطن والمواطن، بل إن الديمقراطية في معناها الأعم والأشمل تعني تداول السلطة، فكيف يمكن تداول السلطة أو جزء منها من دون أن تكون المعارضة مؤهلة لتولي المسئوليات التي ستناط بها؟

إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"

العدد 1004 - الأحد 05 يونيو 2005م الموافق 27 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً