قبل شهر كنت في مصر، والحديث مع الإخوة المصريين شيق لما هو معروف عنهم من أريحية واستخدام مكثف للنكتة السياسية. وأثناء الحديث عن حركة "كفاية" المصرية التي تدعو إلى وضع حد لاستمرار الرتابة السياسية من دون أي تغيير أو استجابة لمتطلبات الوقت الحاضر، وردود فعل الجهات الرسمية المضادة التي تقول "مش كفاية"... ذكر أحد الإخوة المصريين قصة يتناقلها البعض عن الرئيس المصري الراحل أنور السادات. وعلى رغم عدم إمكانية التعرف على حقيقتها، وفيما إذا كانت من صنع الخيال أم حدثت فعلا، فإن ذكرها ينفع في توضيح جانب من الثقافة السائدة في منطقتنا.
تقول القصة إن الرئيس السادات تسلم شكاوى كثيرة ضد أحد وزرائه بسبب السرقات والفساد الذي استشرى بسببه، ولكن السادات رد على الشاكين: "أعرف كل حاجة، ولكن الوزير شبع الآن وعلينا أن نركز على عمله وما يمكنه إنجازه، وإذا غيرناه فسيأتي شخص آخر وسيمارس الشيء نفسه وسنخسر أكثر في انتظار أن يشبع".
مرة أخرى، إنها قصة أقرب إلى النكتة السياسية المصرية منها إلى الواقع، ولكنها تعبر فعلا عن الثقافة التي تستشري في بلداننا بحيث أصبحنا مادة ثرية للتندر وأصبحنا نقبل بالواقع الفاسد، لأنه قسمة ونصيب، وأمر مفروض علينا جميعا وعلينا أن نتعامل مع الأمور بشكل اعتيادي؛ لأن الحديث عن أي شيء آخر إنما هو مجرد عبارات تنشر في الإعلام من أجل تضييع الوقت وتشغيل العاطلين عن العمل في أعمال تهدف أساسا إلى تلميع حال الفساد وعرضه وكأنه جنة الله على الأرض.
الحقيقة هي أننا حلمنا كثيرا بوحدة الأمة العربية، وصدقنا كل الشعارات، وقال لنا زعماء الوحدة العربية إن علينا أن ننتظر حتى تكتمل الوحدة وحتى نستعيد فلسطين وبعد ذلك سيرتفع شأن المواطن العربي وسيحصل على كل حقوقه... بعد ستين عاما لم تتحقق أية وحدة ولم يحصل العرب على فلسطين ولم يحصلوا حتى على حقوقهم البسيطة المتعلقة بدورهم في شئونهم المحلية.
غير أن الوحدة العربية تحققت بشكل آخر؛ فنحن متوحدون في سيادة الممارسات الفاسدة في الحياة العامة، واستباحة المال العام يوحد العرب من كل حدب وصوب، حتى أن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية اعترفت أخيرا بالوحدة العربية في هذا المجال. فالبرنامج الانمائي للأمم المتحدة أصدر في أبريل/ نيسان تقريره عن التنمية الإنسانية في العالم العربي. وقال إنهم جميعا متساوون وإن "العجز في الحريات العامة" هو الأسوأ في كل أنحاء العالم. وكذلك أصدر منتدى دافوس تقريرا في أبريل الماضي عن التنافسية في العالم العربي، وقال إن عالمنا هو الأسوأ من الناحية التنافسية الاقتصادية.
وأصدرت منظمة "فريدوم هاوس" تقريرا عن حرية المرأة العربية ووجدت أن هذه الحرية معدومة وأن أفضل الدول العربية لا تقترب من المتوسط المطلوب والمعمول به عالميا.
التقارير الدولية وحدتنا على أرض الواقع، فنحن ليس لدينا احترام دولي، لأن حكامنا يفتخرون بما يطبقونه من أساليب بالية على رؤوسنا، والفساد المستشري في وضح النهار هو العامل المشترك المعترف به عربيا، وانعدام الحريات العامة عامل آخر يوحدنا كأمة عربية وأكبر الدول العربية لا تختلف كثيرا عن أصغرها إلا في بعض التفاصيل التي لا تبدل من الأمر الواقع شيئا.
إذا... نحن بحاجة إلى أن نصرخ "كفاية" لكل البلاء، و"كفاية" لكل الفساد، "وكفاية" لكل من يستبيح المال العام، و"كفاية" تعني "كفاية"
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1004 - الأحد 05 يونيو 2005م الموافق 27 ربيع الثاني 1426هـ