ان احصينا قائمة المشكلات ذات الأولوية ستجدون الكثير. وها هي دورة برلمانية تنتهي من دون أن نظفر باحساس ولو يسير بالرضا. فحصيلة السنوات الثلاث الماضية من عمر البرلمان تبدو أقل من أن الطموحات بكثير وبكثير جدا. ان هذا تعبير مترفق لأن الخيبة هي الكلمة الانسب لوصف مشاعر الناس حيال البرلمان ومشاعر النواب أنفسهم وناخبيهم.
أما خارج البرلمان، فإن الأمور ليست بأحسن حال. مجتمع منقسم بجدارة، عشرات الجمعيات في كل ميدان وليست هناك أولوية واحدة متفق عليها، لا في محاربة الفقر وتحسين مستويات المعيشة ولا في إدارة الاقتصاد ولا في إدارة الحياة اليومية ولا حتى في القضايا الحقوقية ولا السياسية ولا في النشاط الثقافي في أبسط صوره.
أيا كانت العناوين التي ستفرض نفسها في النقاش، لن تجدوا حيالها سوى الانقسام. ولكم أن تروا المدى المدمر لهذا الانقسام عندما نرى أن مشكلة مثل البيوت الآيلة للسقوط والعائلات التي لا بيت لها تستدعي كل هذا الصراخ على مدى عامين وأكثر.
والحاصل أنك ستجد في كل ميدان من ميادين العمل الأهلي جمعيات تستوي على شيء من الاستقلالية وأخرى تؤيد الحكومة. فالمجتمع المدني هذا الذي نتحدث عنه كمقياس لحيوية المجتمع ومدى شيوع الديمقراطية بات منقسما بين جمعيات تم تصنيفها على أنها أما "معنا" أو "ضدنا". ولو قرأنا برامج هذه الجمعيات كلها، فلن نظفر بأكثر من برامج لجمعيات أهلية تنشط في ميدانها مثل أية جمعية في العالم، ولكن بالنسبة للحكومة فإن الجمعيات والمؤسسات الأهلية مازالت تدخل ضمن ذلك التقسيم الحديدي للمجتمع والأفراد: "معنا أو ضدنا".
اما التيارات السياسية فهي الأخرى ليست بمنأى عن هذا. فهي لاتزال تحت تأثير هذا التقسيم الحديدي. فبالنسبة للتيارات السياسية فإن الجمعيات الأهلية مهما كان نشاطها لن ترقى إلى أكثر من فروع ترفد الجمعية أو التيار الأم. أي ذلك النوع من العمل الذي لا يرى من أولوية سوى للسياسة والباقي كله نشاطات رديفة وثانوية لن ترقى إلى ما هو أكثر أرقام وكم حسابي للجماهيرية.
بالنسبة للبعض فإن هذا تسييس يضر جوهر العمل الأهلي. وبالنسبة للبعض الآخر أمر طبيعي حتى مع الاقرار بسلبياته، ولكنه في نهاية المطاف وبمقارنته مع التجربة الإنسانية عموما، فهو نوع متخلف جدا من العمل السياسي والنشاط المدني لأن النتيجة النهائية الوحيدة لكل هذا هو الاداء الموضوعات للعمل الاهلي الى حد انعدام الفاعلية.
ان قلنا ان تحسين مستويات المعيشة هي الأولوية، فان التقدم لا يبعث على الرضا. فقد قدمت الحكومة مشروعها لإصلاح الاقتصاد وإصلاح التعليم وسوق العمل وكنا نتوقع ان تحظى "دراسة ماكينزي" بفرصة اكبر من النقاش والمناظرات على المستوى الوطني لاغنائها. وهي اذ ساوت بين الرسوم المفروضة على الخبير الاجنبي وعامل النظافة الاجنبي، فان ردود الفعل التي لاقتها هذه الدراسة والخطة لم تتعد طابع "رد الفعل". اي لم تكن هناك بدائل، أو على الأقل تعديلات تتعدى نقطتين أو اكثر في الخطة.
وعدا مثال واحد يتيم، لم تتقدم المعارضة في ادائها عندما تتصدى لمشروعات القوانين التي تقدمها الحكومة للبرلمان. وكانت تجربة تقديم مشروع قانون بديل "للتنظيمات السياسية" يمكن ان تمثل بداية لنوع جديد من عمل المعارضة يتمثل في تقديم بدائل لادارة الدولة والمجتمع بدلا من الاكتفاء بنقد مشروعات القوانين الحكومية.
اما الحريات العامة والفردية، فلم تظهر السنوات الثلاث الماضية سوى ان هناك ميلا للنكوص والارتداد وتقييد الحريات لدى الناس اكثر من الحكومة. فالحكومة تعبر عن ميلها لهذا التقييد في مشروعات القوانين التي تمس المجتمع باسره وخصوصا حرية التعبير. لكن هناك من يرد التحية للحكومة باحسن منها والمفارقة من أولئك الذين أوصلهم الانتخاب الحر وصناديق الاقتراع الى المؤسسة التشريعية. واذا كانت التيارات السياسية باجمعها وخصوصا المعارضة، متحدة في التصدي لتقييد حرية التعبير سواء عبر قوانين التجمعات وقانون مكافحة الارهاب وقانون الجمعيات، فانها لم تظهر حتى اليوم الحماسة نفسها والموقف الصلب نفسه من قضايا الحريات الفردية وأوضاع النساء وحقوقهن مثلا.
هانتم ترون العناوين وتدركون حجم الانقسام البالغ حيالها. واذا ما تعامل المرء مع هذا كله في سياقه الطبيعي، فان أفضل تفسير يمكن الركون اليه هو ان مثل هذا الانقسام والتشظي وهيمنة الايديولوجيا والتسييس الفج للمجتمع المدني، قد تبدو مظاهر طبيعية لمجتمع خارج من مرحلة قمع طويلة. لكن هذا لا يغير في النتيجة النهائية شيئا: نحن متفقون على العناوين ومختلفون على اساليب العمل.
ليست المشكلة في اختلاف الآراء ولا التوجهات ولا كثرة التيارات السياسية، لكن المشكلة هي في غياب أي اتفاق حد ادنى لدينا على ثوابت معينة سواء في الاقتصاد أو السياسة أو الحياة العامة. البعض يقول: الدستور والميثاق وكفى. لكن ذلك لن يحل شيئا، وطيلة الاعوام الثلاثة الماضية لم تكن هناك من مفردة تتردد اكثر من الدستور والميثاق حتى على لسان أولئك الذين يريدون انتقاص مكتسباتنا ويعبرون بكل وضوح عن استعدادهم للنكوص والارتداد واعادة عقارب الساعة الى الوراء.
دون الاتفاق على ثوابت الحد الأدنى فإن حال الانقسام هذا سيجعلنا نراوح في الدائرة نفسها وسيحولنا جميعا بكل نشاطاتنا إلى مجرد استعراضات في انعدام الفاعلية وانعدام الجدوى ولن نتقدم أبدا
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1002 - الجمعة 03 يونيو 2005م الموافق 25 ربيع الثاني 1426هـ