دعا السيدمحمد حسين فضل الله، إلى تثقيف الناخب لتغيير ذهنيته لينتخب لقضية لا على أساس الشعارات والتراكمات، منتقدا الميوعة السياسية والانتخابية التي تأكل القضايا الكبرى لتبقى مفردات التغيير والإصلاح مجرد كلمات يجترها الواقع السياسي في المماحكات. وحذر من بيع الناخب صوته في السوق السياسية الفاسدة أو خضوعه للمال السياسي، مشيرا إلى أن بيع الأصوات والضمائر في البازار الانتخابي هو مؤشر من مؤشرات السقوط الكبرى في الأمة والوطن.
جاء ذلك ردا على سؤال في ندوته الأسبوعية بشأن الموقف الإسلامي من العملية الانتخابية، ومواصفات المرشح ودور الناخب، فأجاب:
يمكن تصنيف العملية الانتخابية من خلال الدور الذي تؤديه وإطلالها على مصير البلد أو الأمة، كعملية رسالية من الدرجة الأولى تسهم في حفظ التوازن الاستراتيجي في العناوين الكبرى. ومن هنا فإن الإسلام لم يتنكر لمشاركة الأمة في اختيار من يمثلها انطلاقا من مبدأ الشورى الذي حث عليه وعلى ضرورة أن تشترك كلها في هذا الاختيار. بيد أن الإسلام أراد للناس أن تضع الحاكم أو المسئول، أو أي شخص يصل إلى موقع من مواقع القيادة أو التشريع، في مواقع المساءلة والمراقبة من خلال الملاحقة الدائمة له ومحاسبته انطلاقا من البرنامج العام الذي التزم به، ولذلك رأينا أن الإمام عليا "ع" يخاطب الأمة قائلا: "فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني". إن أهمية العملية الانتخابية من كونها تمثل ممارسة لمسئولية سياسية قد يتوقف عليها مصير الأمة، ولهذا تعتبر جزءا من العمل الرسالي والعبادي. وعليه فلا يمكن الاستخفاف بأي صوت، كما لا يمكن أن تنطلق الأصوات في هذه العملية على أساس تجاري، إذ لا مجال للمتاجرة والاستخفاف بالأمور المصيرية. ثم إن العملية الانتخابية من شأنها أن تعمل على ترشيد المجتمع سياسيا وإنمائيا، لأن من المهمات الكبرى التي يراد للانتخاب أن يؤسس لها هو أن يعمل لإنتاج طبقة سياسية تتحلى بنسبة عالية من الوعي والمسئولية لتعمل على أن تنضج المجتمع وترفع من مستوى الأمة. وهنا تكمن المسئولية الملقاة على عاتق الناخب في اختيار هؤلاء، لأن مجاراة الوضع السياسي والاختيار كيفما كان، سيفضي إلى تركيز طبقة من اللون السياسي القائم نفسه، والذي لا ينزع فيه الناس نحو التغيير الحقيقي ليدفعوا الثمن بعد ذلك في استمرار الجمود الذي حال ويحول دون إخراج البلد من دوامته السياسية والاقتصادية. ولذلك كنا نقول إن على الناخب أن يبذل قصارى جهده ليتعرف على الشخصيات المرشحة فيرصد كفاءاتها وصدقها وإخلاصها ووعيها السياسي والإنمائي وانفتاحها على المجتمع بكل أطيافه السياسية والدينية ودرجة تحملها لهموم الناس ومدى إخلاصها لقضايا الأمة، إذ لا يجوز أن تأخذ الاعتبارات العائلية والحزبية والعشائرية طريقها إلى التحكم بمسألة انتقاء المرشح على الطريقة الإقطاعية، بل لابد من مراعاة الضوابط التي تنظر إلى الجانب القيم في المرشح باعتبار أن ما سيقوم به بعد الانتخاب سيتحمل مسئوليته كل الذين صوتوا له، فهم المسئولون عن تصديقه على هذا المشروع الخاطئ أو المكلف للبلد، وهم المسئولون عن إخفاقاته وانعكاساتها المدمرة على البلد وقضايا الناس.
وعلى الأمة أن تدخل في حال طوارئ في مجتمعاتها الصغيرة أو الكبيرة عندما تطل المرحلة على عملية اختيار أو انتخاب لتدرس كيف تنتقي نماذج صالحة تستطيع أن تقدم عبر الممارسة السياسية اليومية أسلوبا سياسيا حضاريا، لا أن تستسلم للأمر الواقع وما يفرض عليها بفعل الحسابات السياسية التي غالبا ما تتحرك فيها العقليات الانتخابية وفق مصالح ضيقة وذاتية، أو على أساس مراعاة بعض الضغوط والأجواء الخارجية.
بيع الأصوات سقوط للأمة
إن دور الناخب هو الأساس، وعليه أن يكون دقيقا في عملية الاختيار فلا يخضع المسألة لنزواته ومصالحه أو لبعض العروض، لأن واحدة من المحرمات الكبرى تتمثل في بيعه موقفه وصوته ونفسه في السوق السياسية الفاسدة أو في خضوعه للمال السياسي والانتخابي الذي لا يفسد العملية الانتخابية فحسب، بل يحرق المراحل التي تليها بما يسقطه من حالات المناعة العامة التي ينبغي أن تتوافر في البلد لمقاومة تجار السياسة. وإن بيع الأصوات والضمائر في البازار الانتخابي هو مؤشر من أكبر مؤشرات السقوط في الأمة والوطن.
إن ما يبعث على الاستغراب في لبنان أن تجد أن غالبية الناس تشكو من هذه الطبقة السياسية أو من النماذج البرلمانية الكثيرة ثم تعمل على إنتاجها من جديد، لأننا كففنا عن المحاسبة أو تربينا على المداهنة والمراوغة، فكفت هذه النماذج عن إصلاح نهجها وممارساتها وتحرك الفشل العام في مجتمع لم يتحرك لإنتاج بيئة سياسية تؤسس لمدرسة الطهارة السياسية التي تأخذ على عاتقها إخراج البلد من مشكلاته الاقتصادية والسياسية ومن دائرة الفساد إلى فضاء الإصلاح والتغيير.
إن المشكلة قد تكمن في أن الطبقة السياسية أو الحزبية عملت على تثقيف القاعدة بأن تهتف لها بعيدا عن أن تفهم ماذا تصنع، ولم تثقفها بأن تمارس عملية النقد بما يرفع من منسوب العطاء السياسي ويؤصله، كما تكمن المشكلة في أن الناخب عندنا ينتخب على أساس الشعارات أو التراكمات، ولم يتثقف في أن عليه أن ينتخب لحساب قضية. ومن هنا استطاعت الميوعة السياسية والانتخابية أن تأكل القضايا الكبرى لتبقى مفردات التغيير والإصلاح مجرد كلمات يجترها الواقع السياسي في المماحكات من دون أن تتحرك في عمق الحياة السياسية، بل أن تبقى على السطح كديكور يجمل الشكل السياسي للممارسات التقليدية غير المنتجة.
وهناك مسألة يدور حولها الجدل السياسي وهي مسألة سن الناخب، فإن موقفنا الإسلامي والشرعي ومن خلال اجتهادنا الفقهي يؤكد حق كل إنسان قد بلغ سن التكليف والرشد أن يبدي رأيه ويختار من يمثله. ولعل من المفارقات العجيبة في لبنان أن الجميع يحدثونك عن الشباب وأهمية دوره، حتى إذا وصل الأمر إلى المستوى الذي لابد فيه للشباب من إبداء رأيهم في مجمل العملية السياسية والانتخابية، انطلقت الأسوار الحديد لتطوق هذا الرأي بعناوين قانونية وتشريعية. ونحن نسأل: كيف أن هذا الإنسان "الشاب" يتحمل المسئولية التامة أمام القانون بدءا من سن معين كالثامنة عشرة مثلا ولا يفسح له في المجال للتعبير عن رأيه السياسي والانتخابي في السن نفسه؟ وكيف أن عليه تحمل أعباء الواجبات ولا يعطى الحقوق البديهية، مع أن المسألة ليست كذلك في العالم.
لقد أريد للانتخابات الحالية أن تكون المحطة التي تؤسس لما بعدها، وعلى اللبنانيين أن يدركوا المخاطر التي تعترض وحدتهم فيعملوا على أساس الخطاب المنفتح البعيد عن الانفعال لصون هذه الوحدة... إن أمامنا محطات كبرى وعلينا أن نعمل للدولة الحرة المستقلة قبل أن يسقط البلد فريسة سهلة في حمى الفوضى الأميركية التي يراد لها أن تحرق الأخضر واليابس في المنطقة
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1001 - الخميس 02 يونيو 2005م الموافق 24 ربيع الثاني 1426هـ