الوفد الرسمي ذهب إلى جنيف لتمثيل البحرين في استحقاق حقوقي وطني مهم، بالمثول أمام "اللجنة الدولية لمناهضة التعذيب"، أملا في تقديم صورة مشرقة لما يجري في البلد من تطور سياسي لافت. لكن هذه المهمة "الوطنية" انحرفت عن القصد، وانتهى الوفد إلى الدفاع عن "كبار" المتهمين بانتهاكات حقوق الإنسان في فترة "أمن الدولة"، ممن يطلق عليهم الشارع اختصارا لقب "الجلادين".
وبدلا من الذهاب متسلحا بالأرقام والمنطق، نراه يتفنن في تقديم النظريات الجميلة، ومن سوء حظ البحرين ان أفضل ما تسلح به الوفد فيلم "رعب" هزيل! لو عرض في سينما السيف لما زاد دخله عن عشرة دنانير! أراد به مخرجه المجهول إثبات ان الحركة الشعبية المطالبة بعودة البرلمان، لم تكن غير "مجموعة عيال صغيرين فوضويين"! بل ان المذيع "الانجليزي"، لم يستح من وصف الشعب الذي ضحى بالأرواح من أجل "ولادة" الإصلاح السياسي بالمخربين والخونة للوطن!
إنتاج الأفلام المفبركة هو أرخص طريقة في العمل الإعلامي الفاشل، مـــــــجرد "CUT & PASTE"! عقلية موروثة من مرحلة "أمن الدولة" يتم لصقها في عهد الاصلاح والانفتاح السياسي، حتى باتت رقعة شوهاء في ثوب الوطن.
على ان الطريقة الأكثر إثارة للعجب ما صدر من تصريحات رسمية متبجحة، أرادت الإلتفاف على ما جرى في جنيف وتحريفه، وأبرزته "بعض" الصحف على انه "انتصار كبير" للحكومة، بالقول ان "توصيات اللجنة ليست ملزمة"! فلماذا ذهبتم إلى هناك وتجشمتم وعثاء السفر إذن؟!
مثل هذا "التطبيل" الأعمى من صحافة "الموالاة"، يعيد إلى الذاكرة أشباح فترة "أمن الدولة"، ويعيد تلميعهم وتنصيبهم أبطالا في مرحلة الإصلاح! وليت المطبلين يدركون ان ليس من الحكمة تكرار ما لاكه الإعلام الرسمي ثلاثة عقود حتى قاءه الناس. وأن ليس من الحصافة الدفاع عن المتورطين في تعذيب المواطنين بالكهرباء والمكواة و"الدريل". ابحثوا أيها السادة عن سبل لتعويض منصف ومرض لمتضرري حقبة الظلم الفاحش، بدل الإصرار على استخدام اللغة القديمة، على رغم ما تلحقه من أضرار بالغة بسمعة الوطن في الخارج.
ان من أول دلائل إخفاق هذا التعاطي "القديم" مع العالم، ان أحد أعضاء الوفد المتسلقين طردته اللجنة من دخول القاعة، على جاري عادتها مع المتطفلين على عذابات الشعوب، حتى لو شكلوا لجانا أو جمعيات "هجينة" تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان.
شهادة فخر للبحرين
ومما يسجل للبحرين الرسمية انضمامها إلى اتفاق مناهضة التعذيب، وخلو سجونها من المعتقلين السياسيين بعد ثلاثة عقود مظلمة. والبحرين اليوم ليست بحاجة إلى جمعيات "مزيفة"، فهناك من يمثل الجانب الأهلي بصورة أمينة ومشرفة، حتى كان انطباع أحد أعضاء اللجنة الدولية إيجابيا جدا، إذ قال: "انني لأول مرة أشهد مجتمعا حيا يتعامل مع قضاياه بهذه الحيوية".
ان الحضور رسميا وشعبيا أمر مهم، ولابد من استمراره في المستقبل من أجل مستقبل حقوق الإنسان في هذا الوطن، على أن يتم إبعاد هؤلاء المتطفلين عن هذه المحافل، وخصوصا انهم ليسوا على مستوى مسئولية تمثيل البحرين.
وكلمة إنصاف لابد منها: ان اللجنة الدولية لمناهضة التعذيب، لم تدخر جهدا في إزجاء النصيحة لنا، إذ طالبت الحكومة بتعويض عادل لضحايا التعذيب وإعادة تأهيلهم، والاعتراف معنويا وماديا بمسئوليتها، وإلغاء مرسوم 56 الذي وفر الحماية لمنتهكي حقوق الإنسان وتقديمهم للعدالة. وهي مطالب عادلة تماما، ومن الحكمة الاستجابة لها، ومن العار على البلد أن نقرأ مانشيتات صحفه وهي تقول: "انها توصيات غير ملزمة". فأي فخر في العناد والصدود عن الحق، والإصرار على الباطل؟ أين الحكمة في الإعراض عن "نصائح" كلها تصب في صالح الوطن وسمعته، والإنتصاف لفئة عريضة من المواطنين الذين دفعوا كلفة بطش قانون "أمن الدولة"؟
كان الحري بالبحرين أن تبحث عن طرق ايجابية لتطبيق مثل هذه التوصيات، انطلاقا من قناعات وطنية بالدرجة الأولى للانتصاف للمظلومين والمتضررين من أبنائها. وإذ لم يحدث ذلك، فعليها أن تعطي نفسها فرصة للإستماع إلى هذه التوصيات الخيرة: عدلوا قانون 56 بحيث لا يوفر الحصانة لمن ارتكبوا أعمال التعذيب وغيره من المعاملة القاسية واللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة، إنتبهوا إلى خطورة القوانين الجديدة مثل قانون مكافحة الإرهاب، إنتبهوا إلى الفجوة بين التشريعات والتطبيق، إعملوا على ضمان استقلال القضاء، اتخذوا إجراءات لمنع التعذيب والمعاملة الحاطة بكرامة الإنسان.
نصائح ذهبية بلاشك، وتوصيات لا ينقصها الإخلاص... طوبى للحكومات التي تستمع القول فتتبع أحسنه... لعلكم إلى العدل والإنصاف تهتدون
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1000 - الأربعاء 01 يونيو 2005م الموافق 23 ربيع الثاني 1426هـ