أثارت اجتماعات لجنة مناهضة التعذيب في جنيف في تعاطيها مع قضية التعذيب ردود فعل واسعة مازالت تتفاعل. واللافت للنظر أن الحكومة لم تكن موفقة منذ البداية في أسلوبها ونهجها في التعاطي مع اللجنة والجمعيات الأهلية البحرينية المعنية ولا مع الموضوع بكليته فيما نحت بعض الأطراف الأهلية منحى الشطط.
منذ البداية لم تكن الحكومة صادقة مع اللجنة ولا مع الأطراف الحقوقية البحرينية، إذ عمدت الى إخفاء تقريرها ولم تنشره أو توزعه على الجمعيات الأهلية المعنية. والتقرير المقدم الى اللجنة، كما جاء في بيانها النهائي الذي يتضمن القرارات والتوصيات بتاريخ 20 مايو/ أيار 2005 لا يتوافق كلية مع دليل توجيهات اللجنة، أي انه محشو بمعلومات عامة، فيما لا يتضمن معلومات تفصيلية تتناول تنفيذ بنود الاتفاق، وتنفيذ التشريعات في الممارسة، وسجل الماضي والحاضر والخطوات العملية المتخذة لمعالجة الانتهاكات الفاضحة الماضية وإنصاف ضحايا التعذيب، ومجازاة من ارتكبوا أعمال التعذيب ووسائل ضمان عدم تكرار هذه الجرائم مستقبلا.
هذه العقلية التي تحمل كل ما تفعله الحكومة، هي عقلية تنتمي إلى الماضي، لكن الحكومة مصرة عليها. بالإمكان ذلك في الماضي إذ كان فيه تقرير الحكومة أمام الخبراء، أما الآن فهناك التقرير المشترك للجمعية البحرينية لحقوق الإنسان والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان وتقرير مشترك لمركز حقوق الإنسان وللجنة الشهداء وضحايا التعذيب، كما هناك تقرير للمركز الحقوقي الدولي "ICG" الذى مكن اللجنة من الإحاطة فعلا بمعطيات الوضع في البحرين وخصوصا ما يتعلق بقضية التعذيب والمعاملة أو العقوبة القاسية واللاإنسانية والحاطة بالكرامة.
وما يتصل ببنود اتفاق مناهضة التعذيب فإن هناك تقريرا عن زيارة مجموعة العمل عن الاعتقال التعسفي برئاسة القاضي الفرنسي جوانيه، للبحرين في أواخر ،2001 وتقارير المقررين الخاصين واللجان المختصة عن مرحلة التسعينات، تتضمن بالتفاصيل ضحايا المرحلة السابقة والمسئولين عنها.
لذلك كان الوفد الرسمي مرتبكا في رده على استفسارات خبراء اللجنة ولم يستطع حتى بعد أن اجتمع معهم ثانية أن يرد على أسئلة واستفسارات معينة.
تضليل الرأي العام
على سابق نهجها عمدت الحكومة الى تضليل الرأي العام عن مجريات أعمال لجنة مناهضة التعذيب في جنيف. ومن الواضح أن الأخبار التي كانت تضخ من جنيف الى الصحف المحلية صادرة عن الوفد الرسمي ووكالة أنباء البحرين، ويجرى تعميمها من جهة حكومية لأن عباراتها متطابقة.
في مساء 11مايو / أيار الماضي اجتمعت لجنة مناهضة التعذيب مع المنظمات الأهلية البحرينية وهي الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان "الجمعية" ومركز حقوق الإنسان "مركز" ولجنة الشهداء وضحايا التعذيب "اللجنة"، كما التقت المقررة المختصة بالبحرين قيلسيا غاير، بوفدي جمعية مراقبة حقوق الإنسان في البحرين وبرئاسة فيصل فولاذ "مراقبة" ولجنة ضحايا الإرهاب في البحرين "لجنة السعيدي".
وفي صباح اليوم التالي اجتمعت مع الوفد الرسمي لحكومة البحرين برئاسة وكيل وزارة العدل الشيخ خالد بن علي آل خليفة. في اليوم ذاته "12 مايو" أصدرت اللجنة بلاغا صحافيا عن الاجتماع مع الوفد الرسمي لأن اللجنة لا تنشر عما يدور في لقاءاتها مع المنظمات الأهلية لاعتبارات أمنية، لكنها في توصياتها النهائية تشير الى فحوى ملاحظاتها.
مساء 11 مايو وبعد لقاء اللجنة مع وفد الجمعيات الأهلية عقدت الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان مؤتمرا صحافيا في مقرها تحدث فيه نائب الأمين العام سلمان كمال الدين ومسئول التدريب والتثقيف عبدالنبي العكري، وجرى استعراض تقرير الجمعية الذي قدم إلى اللجنة وفحوى ما دار في اجتماع اللجنة مع الجمعيات الأهلية البحرينية، وسلمت الصحافة المحلية "CD" بالتقرير، وباستثناء صحيفة "الوسط"، لم تنشر باقي الصحف شيئا منه.
في الوقت ذاته عممت وكالة أنباء البحرين "بنا" ترجمة محرفة عن البلاغ الصادر عن اللجنة بتاريخ 12 مايو بعنوان: "اللجنة تبدأ مناقشة تقرير البحرين"، إذ اقتصرت ترجمة الوكالة لما هو في صالح الحكومة وحذفت الملاحظات الانتقادية لخبراء اللجنة.
وفي يوم الجمعة 13 مايو، خرجت علينا الصحف المحلية "باستثناء "الوسط""، بمانشيتات على الصفحة الأولى "البحرين طوت صفحة الماضي بصدور قانون العفو العام... تأييد كبير من كافة أعضاء لجنة مناهضة التعذيب في جنيف لتقرير المملكة"، "البحرين تؤكد مبدأ مناهضة التعذيب... خبراء عالميون: البحرين تجاوزت ظاهرة الإرهاب التي تعرضت لها في التسعينات".
وعرضت صحيفتان محليتان جزءا كبيرا من التقرير الرسمي. كما نقلت احداهما كلاما منسوبا إلى خبراء اللجنة لم يرد في بيان اللجنة الرسمي، يشيد بسياسات الحكومة ويدين أعمال "الإرهاب" في التسعينات. والمعروف انه يحظر على الخبراء الإدلاء بتصريحات عن مجريات جلساتهم أو التقارير التي يناقشونها.
وفي يوم 12 مايو، عقدت اللجنة اجتماعها، الثاني مع الوفد الرسمي للاستماع الى ردوده على الأسئلة والاستفسارات التي طرحها خبراء اللجنة في الجلسة السابقة، إذ أجاب الوفد عن بعضها ووعد بالرد كتابيا على الآخر. وأصدرت اللجنة بلاغا صحافيا بذلك في الفترة بين 13 و20 مايو، عندما صدر بيان من اللجنة عن استنتاجاتها وتوصياتها. واستمرت الصحف المحلية "باستثناء "الوسط"، والى حد ما "الميثاق""، في نشر معلومات مضللة عما جرى في جنيف وتصريحات لرئيس الوفد الشيخ خالد آل خليفة وسفير البحرين في جنيف سعيد محمد الفيحاني، وكلها تشيد بما حققته المملكة وما احتواه التقرير الرسمي، وتأكيد التزام مملكة البحرين باتفاق مناهضة التعذيب وكونه جزءا من التشريع الوطني، مع تبرير السياسات الخاطئة وخصوصا القانون 56/2001 والإيحاء بأن القضاء مفتوح أمام الضحايا للتظلم.
في الوقت ذاته، كانت شبكة الانترنت تتناقل البلاغين الصادرين عن اللجنة، إضافة الى ذلك عقدت رئيسة وفد الجمعية الى جنيف سبيكة النجار مؤتمرا صحافيا بتاريخ 17 مايو ،2005 عرضت فيه مجريات اجتماعات الجمعيات الأهلية مع اللجنة وخصوصا ما عرضته الجمعية، وتم تنظيم عدد من الندوات أهمها ندوة في جمعية العمل الوطني الديمقراطي. للنجار بتاريخ 18 مايو نقلتها صحيفة "الوسط"، وتصريحات لحقوقيين ومحامين. كما أن كتاب الأعمدة أدلوا بدلوهم. وقد وصفت صحيفة "الوسط"، في مانشيتها ما يجري في جنيف، بأنه "معركة قانونية"، والحقيقة أن ما كان يجري في جنيف هو انعكاس لما كان يجري في البحرين.
التعتيم على استنتاجات وتوصيات اللجنة
بتاريخ 20 مايو أصدرت اللجنة استنتاجاتها وتوصياتها النهائية عن البحرين، وطبعا حصل الوفد الدائم لمملكة البحرين في جنيف عليه في اليوم ذاته، وكان بيد كبار المسئولين، ولكن جرى التعتيم عليه بشكل كامل.
وبعد أن نشر على موقع المفوض السامي لحقوق الإنسان بتاريخ 23 مايو أضحت الصورة واضحة. وهنا لن نستعرض ما جاء في استنتاجات وتوصيات اللجنة إذ أضحى متداولا. خلاصة القول اننا نتفق مع اللجنة في ترحيبها بالخطوات الايجابية التي اتخذتها البحرين ضمن المشروع الإصلاحي وخصوصا إلغاء قانون أمن الدولة ومحكمة أمن الدولة، والعفو العام عن المعتقلين والمنفيين السياسيين، والخطوات الإصلاحية الأخرى في مقدمتها ميثاق العمل الوطني. وقد تكون هناك تباينات بشأن ما أشادت به اللجنة مثل دستور ،2002 والمحكمة الدستورية والمجلس الوطني بغرفتيه ومجلس القضاء الأعلى، إلا أن ذلك لا يقلل من أهميتها. كما كان انضمام البحرين الى الاتفاقات الدولية مثل اتفاق مناهضة التعذيب، ومع سحب تحفظها على المادة "20" منه، واتفاق تصفية جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وزيارة وفد مجموعة العمل للاعتقال التعسفي وعزمها على الانضمام إلى العهدين الدوليين والتغييرات الجارية في وزارة الداخلية سواء في تركيبتها أو ساسياتها أو توجهاتها هو توجه ايجابي. هذا شيء، والقول ان اللجنة أشادت بتقرير مملكة البحرين وبسياسات البحرين واستصراح الخبراء بكلام لم يقولوه شيء آخر.
من الواضح كما ذكرنا أن التقرير الرسمي لم يلتزم بتوجيهات اللجنة "guildine" وغالبيته عبارة عن حشو إنشائي ويفتقد المادة الفعلية عن سجل مملكة البحرين واجراءتها التشريعية والعملية في تنفيذ الاتفاق، وافتقاده المهنية وهو ما أكدته اللجنة بشكل واضح.
ان اللجنة نبهت الى الفجوات والقصور في التشريعات الوطنية والفجوة بين التشريعات والتطبيق، وعدم إنشاء هيئات مطلوبة مثل الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان وهيئة مستقلة للرقابة على السجون وضمان استقلالية القضاء، وإجراءات ضرورية لمنع التعذيب والمعاملة القاسية واللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة بحق المتهمين والمحتجزين والمعتقلين والسجناء. وكذلك العنف ضد المرأة وضد العمالة الأجنبية وخصوصا عاملات المنازل. وحذرت من خطورة التشريعات الجديدة بصورتها الحالية مثل قانون مكافحة الإرهاب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالنسبة إلى النقطة الساخنة وهو قانون 56/2005 فقد أوصت اللجنة بتعديله بحيث لا يوفر الحصانة لمن ارتكبوا أو تغاضوا عن أعمال التعذيب وغيره من المعاملة القاسية واللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة.
وهو كلام واضح لا لبس فيه، يتناقض مع تصريحات المسئولين، وعلى رغم التعتيم فقد أضحت هذه الاستنتاجات والتوصيات متداولة للجميع. هنا انقلب الموقف الرسمي من الالتزام بالاتفاق وما يترتب عليه، الى القول ان التوصيات غير ملزمة. هل هذا الكلام مسئول؟
للخروج من النفق
إن الجمعيات الحقوقية البحرينية وضحايا التعذيب وجميع ضحايا العهد السابق ليسوا في معركة كسر عظم مع السلطة، التي يجب عليها أن تقلع عن أساليب التضليل والمراوغة السابقة. فالجمعيات الحقوقية وضحايا وشعب البحرين لا يريدون الانتقام ولا نصب المشانق للمسئولين السابقين كما يهول البعض، ولكنهم يريدون التسليم بأبسط حقوقهم، باعتراف الدولة بمسئوليتها تجاه المظالم التي ارتكبها بعض مسئوليها بحق الآلاف من أبناء الشعب، وخصوصا الضحايا وعائلاتهم. فمادامت الدولة امتلكت الجرأة وألغت قانون أمن الدولة ومحكمة أمن الدولة، والإجراءات التعسفية وإلغاء ما ترتب عليها من إطلاق سراح المعتقلين وعودة المنفيين السياسيين وتسهيل بعض أمورهم، ومادامت الدولة تتبني المشروع الإصلاحي، فيجب عليها السير الى الأمام وعدم الرجوع الى الخلف وهذا يتطلب كشف الحقيقة أولا، ثم الإنصاف ثانيا، ثم المصالحة الوطنية الشاملة.
توصيات اللجنة تتطابق مع ما طالبت به الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان في تقريرها البديل أمام اللجنة، وفي تقريرها السنوي، وهو ما يطالب به الضحايا والمخلصون لهذا الوطن.
ان تجاهل توصيات اللجنة معناه العودة إلى سياسة الماضي، ومعناه المزيد من الإدانة لسياسات حكومة البحرين وعزلتها على الصعيد الدولي والأكثر خطورة العودة الى سياسة المواجهة على الساحة مرة أخرى
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1000 - الأربعاء 01 يونيو 2005م الموافق 23 ربيع الثاني 1426هـ