هل ترسم سلسلة الاستفتاءات على دستور الاتحاد الأوروبي معالم مستقبل القارة؟ نتائج التصويت في النهاية ستسهم في دفع تلك العلاقات نحو مزيد من التطور أو ستعرقل انطلاقة القارة وتعطل إمكانات نموها المستقل في إطار فضاءات دولية تشهد منذ أكثر من عقد منافسات لا سابق لها.
نتائج التصويت على الدستور مهمة لأنها تعطي صورة واضحة عن تلك المشاعر الغائبة أو الضائعة في سياقات سياسية غير موحدة على موقف وغير متفقة على أهداف مشتركة.
منذ البدء كانت لبريطانيا وجهة نظر مضادة لفكرة السوق الأوروبية ثم عدلت رأيها جزئيا ودخلت في السوق مترددة. ومنذ البدء رفضت بريطانيا نظرية توسيع السوق خوفا عليها من الانهيار أو التفكك. ومنذ البدء حددت بريطانيا مفهومها الخاص لحدود القارة محاولة اختصارها ضمن بوتقة جغرافية صغيرة نسبيا. بريطانيا مثلا اعترضت على دخول إسبانيا ثم وافقت، ثم عارضت دخول البرتغال ثم وافقت. وفي أيام مارغريت ثاتشر عارضت رئيسة الوزراء اندماج اليونان "المتوسطية الارثوذكسية" بالسوق الأوروبية ثم قبلت الفكرة مرغمة.
بريطانيا عموما كانت دائما متخوفة من فكرة التوسيع. ودائما كانت تفضل التريث وعدم الاستعجال في اتخاذ قرارات حتى لا تتحول الخطوات الحماسية إلى ثغرات تهدد إنجازات القارة وتعطل إمكانات تطويرها في المستقبل.
مقابل النظرية البريطانية قادت فرنسا، مدعومة من ألمانيا، فكرة توسيع حدود القارة جغرافيا وتوسيع سوقها الاقتصادية. ففرنسا كانت ترى عكس بريطانيا وتجد في عملية التوسع الأفقي فرصة زمنية يجب كسبها لأن العالم في سباق. وعلى المتسابقين عدم انتظار إشارة الانطلاق. فالمهم الوصول إلى الهدف واجتياز المسافة بأسرع وقت وبعدها تبدأ القراءة ويأخذ التحليل الموضوعي مداه.
فرنسا وجدت في السرعة والتوسيع قوة للسوق. فالجغرافيا والكتلة البشرية والموقع الاقتصادي وحجم النقد المتداول، كلها عناصر تعطي هيبة للقارة وتضعها من جديد على سكة التنافس الدولي مع الولايات المتحدة غربا والصين شرقا.
وبين نظرية الضعف البريطانية ونظرية القوة الفرنسية سارت فكرة الاتحاد لمصلحة الرأي الثاني المدعوم من ألمانيا. ونجحت دول القارة في اتخاذ خطوات سريعة وجيدة في إطار تنمية العلاقات الداخلية وتطويرها لتكون الفكرة ناضجة وناجحة قدر الإمكان. وتحت السقف المذكور وضعت دول الاتحاد الكبرى مجموعة شروط لكل من يطلب الدخول. كذلك قدمت مساعدات مالية بلغت عشرات المليارات من الدولارات للمجموعة الفقيرة حتى تستخدمها لمد شبكة طرقات وتحسين البنى التحتية والسيطرة على التضخم وتحقيق نسبة نمو سنوية ورفع مستوى المعيشة وغيرها من قواعد تنظيمية وتعليمية وتربوية وصحية وإنسانية.
هذا النشاط غير المسبوق أثمر في النهاية وأعطى نتائج جيدة وشجع تلك الدول الفقيرة نسبيا على تحقيق خطوات متقدمة سمحت لها باكتساب عضوية كاملة. وبسبب هذا النجاح تشجعت الدول المنفصلة حديثا عن الاتحاد السوفياتي في تقديم طلبات للانضمام. وطالبت أيضا دول السوق الكبرى المساعدة المالية والتقنية والتدريبية لتحقيق التقدم المطلوب حتى تقبل عضويتها.
دول الاتحاد الكبرى اختلفت في تقديرها لفكرة توسيع السوق إلا أنها اتفقت في النهاية على إعطاء فرصة للشطر الشرقي من القارة وذلك طمعا في مكسبين: الأول عزل روسيا عن نطاقها الجغرافي - السياسي القاري. والثاني استيراد الأيدي العاملة الرخيصة والمدربة "المسيحية البيضاء" كبديل موضوعي عن حاجة السوق للأيدي السمراء "الإفريقية والمسلمة".
وبسبب تلك الحاجة اضطرت دول الاتحاد إلى اتخاذ خطوات مغامرة وهو أمر أسهم لاحقا في زيادة التدفقات البشرية من أوروبا الشرقية على أسواق أوروبا الغربية. فارتفعت صيحات البطالة والمزاحمة والتضخم وغلاء الأسعار وغيرها من مشكلات أخرى غير منظورة.
كل هذه العناصر الخفية أسهمت في إسقاط الدستور في حفلة التصويت الفرنسية الأخيرة وربما تتكرر هذه النتيجة في أكثر من مكان. وهذا أمر يعزز مخاوف بريطانيا وترددها ويضعف حماس فرنسا وتسرعها.
إلا أن النتائج مهما كانت سلبية لن تنجح في النهاية في غلق مسار التطور أمام مستقبل أوروبا. فالقارة سائره نحو الاتحاد مهما تبعثرت مصالح قواها في المرحلة الراهنة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1000 - الأربعاء 01 يونيو 2005م الموافق 23 ربيع الثاني 1426هـ