التحريض نوع من أنواع الجرائم الجنائية يدخل في إطار ما يسمى بـ «المساهمة الجنائية» المرتبطة بالجرائم الجماعية التي يفترض لوقوعها تَدخُّل أكثر من شخص، أي اشتراك أكثر من شخص في ارتكاب الجريمة ومنهم المحرِّض إنْ وجد. ومن ثم فإن المحرض على ارتكاب جريمةٍ ما يُعد شريكاً في الجريمة استناداً لحكم المادة رقم (44) من قانون العقوبات البحريني الصادر بالمرسوم رقم (15) لسنة 1976 التي جاء فيها «يعد شريكاً في الجريمة من حرض على ارتكابها فوقعت بناءً على هذا التحريض». وعليه فإن التحريض لا يدخل في إطار النشاط الجنائي ولا يعد جرماً إلاّ إذا كان تحريضاً على ارتكاب جريمة يُعاقِب عليها القانون.
بيد أن قانون العقوبات البحريني سابق الذكر لم يُعرِّف «الجريمة» بشكل واضح وجليّ، إنما رسم لنا صورة ضيقة لها من خلال بعض مفرداته، نستخلص منها أن الجريمة هي «سلوك إنساني غير مشروع رتب له القانون جزاءً جنائياً، سواء كان هذا السلوك إيجابياً أو سلبياً، بعمدٍ أو بغير عمد». كما أن هذا القانون لم يُعرِّف التحريض تعريفاً قانونياً، إنما يمكن تعريفه بوجه عام بأنه «الحث على ارتكاب الجريمة». وبهذا التعريف نلحظ أن نشاط الجاني «المحرض» يبقى في إطار النشاط المعنوي، أو «المساهمة المعنوية» فقط، فيكون «فاعلاً معنوياً» وليس فاعلاً مادياً.
على أنه يجب هنا أن لا نخلط بين جريمة «التحريض» وبين «الإرشاد» من جهة، وبينها وبين «شد العزيمة» من جهة أخرى، رغم أن هذا وذاك يعد سلوكاً إجرامياً بالتبعية سابقاً على مرحلة التنفيذ المادي للجريمة ومعاقباً عليه قانوناً... ومع الأخذ بعين الاعتبار أن من يقوم بإرشاد الجاني أو يشد من عزمه لا يعتبر محرضاً إنما مُتدخِّلاً، كما سيأتي إيضاحه تباعاً.
فالإرشاد يُقصد به التنوير والمساعدة بالنصح والإرشاد، مثال ذلك تزويد الجاني بمعلومات أو أفكار وأساليب تساعده على ارتكاب الجريمة أو على الهرب بعد ارتكابها. أما «شد العزيمة» فيقصد به تعزيز التصميم لدى الجاني، وفيه يفترض أن تكون إرادة الجاني معبأةً أصلاً لارتكاب الجريمة، وأن سلوك «المتدخل» جاء لاحقاً ليعزز إرادة الجاني ودعم ثقته ومنعه من أي تردد أو خوف من ارتكاب الجريمة. في حين أن التحريض وإنْ كان قريباً من «شد العزيمة» إلاّ أنه يفترض أن يكون سابقاً على ولوج الفكرة الجنائية في ذهن الجاني، فيكون التحريض سبباً لولوج الفكرة الجنائية في ذهن الجاني.
فالتحريض، إذاً على نحو ما تقدم، يكون أشد خطراً من الإرشاد وشد العزيمة، ذلك لأن المحرض يكون في الحقيقة خالق الجريمة ومحرك أسبابها في نفسية الجاني بعد أن كان ذهن الجاني خالياً منها. ولخطورة جريمة التحريض فإن المحرض يُعاقب جنائياً وإنْ لم يثمر تحريضه إلى نتيجة تُذكر، أي وإنْ لم ينتج أثره في ارتكاب الجريمة. فقانون العقوبات البحريني لا يشترط لمعاقبة المحرض وقوع الجريمة وتمامها بعد التحريض عليها، إنما تقوم مسئولية المحرض لمجرد محاولته حمل الغير على ارتكاب الجريمة. بمعنى أن هذا القانون أخذ بمبدأ «استقلالية مسئولية المحرض» بغض النظر عن ارتكاب الجريمة من عدمه.
وبناء على ما تقدم نستخلص المبادئ الآتية:
أولاً: إن جريمة التحريض لا يتصور وجودها إلاّ إذا كان فعل التحريض يحمل أو يهدف للتحريض على ارتكاب جريمة يعاقب عليها القانون، فإن لم يكن التحريض يحمل على ارتكاب جريمة يعاقب عليها القانون فلا محل لجريمة التحريض.
ثانياً: أن يكون التحريض موجهاً إلى شخص بعينه، أو فئة بعينها، لخلق فكرة الجريمة في ذهن هؤلاء بعد أن كان ذهنهم خالياً من ارتكابها، فإن لم يكن موجهاً إلى شخص «أو فئة بعينها» فلا محل للتحريض أيضاً، لأنه يلزم في جريمة التحريض أن يكون هناك «مُحرِّض» و «مُحرَّض».
ثالثاً: يلزم أن يكون لدى المحرض قصد ارتكاب الجريمة، أي أن تكون نيته متجهة إلى حمل الجاني على ارتكاب الجريمة، فلا يكفي فقط أن يصدر عنه فعل أو قول قد يكون من شأنه خلق فكرة الجريمة في ذهن الطرف الآخر ما لم يكن قاصداً ذلك. إنما يجب الإشارة هنا إلى أنه يكفي لمساءلة المحرض جنائياً وإنْ لم يكن قاصداً حمل الغير على ارتكاب الجريمة متى ثبت من ظروف الدعوى أنه كان متوقعاً، أو كان يفترض عليه التوقع، حدوث نتيجة إجرامية لفعله، وهذا ما أشارت إليه المادة رقم (25) من قانون العقوبات البحرينية من أن «الجريمة تكون عمديه إذا توقع الفاعل نتيجة إجرامية لفعله فأقدم عليه قابلاً المخاطرة بحدوثها».
والتحريض، الذي يحمل على ارتكاب الجريمة، ليس بالضرورة أن يكون ذلك الفعل الذي يمس أو يضر شخصاً بعينه، إنما قد يمس أو يضر فئة أو طائفة بعينها، وهذا الأخير أشد خطورة من الأول خاصة عندما تكون غايته التحريض على الاختصام والفرقة والشقاق والتناحر والكراهية بين أفراد المجتمع، والذي يسميه البعض بـ «التجييش» أو «التحشيد»، وهو الجرم الذي أشارت إليه المادة رقم (172) من قانون العقوبات البحريني التي جاء فيها «يعاقب بالحبس كل من حرض على بغض طائفة من الناس أو على الازدراء بها إذا كان من شأن هذا التحريض اضطراب السلم العام». وهو جرم تناولناه سلفاً في مقال بعنوان «الفتنة والتطرف المذهبي صِنوان» المنشور في صحيفة «الوسط» في العدد رقم 2607.
كما أن التحريض قد يتعدى تلك الحدود بأن يمس الدولة بأسرها. وهو الذي أشارت إليه المادة رقم (138) من قانون العقوبات البحريني التي نستخلص منها «معاقبة كل من يحرض على ارتكاب جريمة من الجرائم الماسة بأمن الدولة الخارجي بالسجن وإنْ لم يترتب على التحريض أثر». ومنه التحريض على جريمة تؤدي إلى المساس باستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها، أو إعطاء العدو خدمة ما للحصول على منفعة أو فائدة، أو تؤدي إلى إفشاء سر من أسرار الدفاع إلى دولة أجنبية، وغير ذلك.
كما أشارت إلى هذا النوع من التحريض المادة رقم (156) من قانون العقوبات البحريني التي نستخلص منها «معاقبة كل من يحرض على ارتكاب جريمة من الجرائم الماسة بأمن الدولة الداخلي بالسجن، وإنْ لم يترتب على هذا التحريض أثر»، ومنه التحريض للاعتداء على حياة أو حرية جلالة الملك أو ولي عهده، والتحريض على قلب أو تغيير دستور الدولة أو نظامها، وغير ذلك.
غير أنه رغم اتساع نطاق جريمة التحريض على نحو ما سلف، لا يجوز أن نتبنى هذه الجريمة بغير شروطها السابق ذكرها، أو نضعها في غير موضعها الصحيح، أو أن نوسع نطاقها أكثر مما تحتمل. إذ نلمس إشارات من هنا وهناك تعتبر النقد، أيّاً ما تكن وجهته، تحريضاً مُعاقَباً عليه. مثال ذلك ما قِيل «أن التحريض الذي يمس السلطة التنفيذية جرم»، وكأننا عدنا إلى الزمن الغابر قبل عهد الإصلاح الذي كنا نخشى أن نقول فيه آنذاك «إن حذاء وزيرنا متسخٌ». بينما من المفترض ونحن في كنف ورعاية جلالة الملك بعهده الإصلاحي التقدمي، وفي ظل دستور يكفل للمواطن حرية الرأي، وحرية النقد، وحرية الكلمة، وحرية التعبير، وحرية الفكر، وحرية العبادة، أن يكون للمواطن حق النقد وحق الاعتراض في مواجهة السلطة التنفيذية وغيرها في الحدود التي رسمها القانون دون إساءة أو تجريح لشخص هذا أو ذاك.
فطالما أن تلك الحقوق قد نص عليها وكفلها دستور البلاد (ومنها في الدرجة الأولى حق النقد وحق الاعتراض على ما قد يَصدر عن السلطة التنفيذية من قرارات أو توصيات) فإن استعمال هذه الحقوق بشكل مباشر بالكتابة أو بالقول أو بالإشارة لا يعد جرماً.
وطالما أن استعمال تلك الحقوق بشكل مباشر لا يعد جرماً فإن المحرِّض عليها من الأَولى أن لا يعتبر مجرماً. ومن يقول بغير ذلك يكون قد صادر تلك الحريات وأفرغها من مضامينها.
وأخيراً نتمنى أن لا يأتي يوم يعتبر فيه من ينادي بتحسين السجون محرضاً، أو أن يعتبر من يطالب بإعادة النظر في سياسة التجنيس محرضاً، أو أن يعتبر من يشير بالبنان إلى موضع فساد إداري هنا أو هناك محرضاً، وإلى غير ذلك.
إقرأ أيضا لـ "علي محسن الورقاء"العدد 2905 - الخميس 19 أغسطس 2010م الموافق 09 رمضان 1431هـ
ونعم الكاتب
نتمنى أن يتعلم الجميع من هذا الكاتب بدلا من المقالات الفارغة المضمون والهدف .
شكرا على التنوير
شكرا للكاتب على التنوير ونتمنى ممن تنطبق عليه الشروط من ابواق السلطة التنبه لحقيقة الوضع قبل إحراق الوطن من خلال اعمدتهم وكتاباتهم المسعورة التي بدأت تتكشف نواياها من خلال اقحام الجمعيات والشخصيات واتهامهم بالتحريض على عنف الشارع. حفظ الله البحرين لاهلها
مشكلة التحريف واللبس
مقال رائع لمتخصص خبير ولكن إلا ترى معي ان هناك ثغرات وتلبيسات تحرف أو تبعد أحيانا المحتوى عن المضمون. رغم ان القانون واضح ولكن هناك دائما من يحمّل الأمور مالا تحتمل ويلبس عليها ويحرفها عن مسارها. وكما يحدث اختلاف في فهم أي نص من النصوص كذلك من يصوغ القوانين ربما يتعمد إبهام بعض النقاط أو يجعلها مطاطية. قابلة لأكثر من معنى
مقال ممتاز كما عهدنا من الكاتب المحترم.
أشكرك على مقالاتك الغنية بالمعلومه و التي تقطر ولاء للوطن..اللهم أصلح أمورنا، و فرج همنا.