العتب الذي أبدته صحيفة «السفير» بتجاهل رؤساء تحرير الصحف اللبنانية وعدم دعوتهم للالتقاء بالقادة العرب الذين يحلون ضيوفاً على لبنان كان تعبيراً عن واقع الصحافة اللبنانية الذي يتجه إلى «الاحتضار» وأصبحت عبارة بيروت عاصمة الإعلام العربي كأنها شيء من الماضي!
هناك نحو عشر صحف يومية وأكثر سيكون من الصعب ترتيبهم من حيث الأكثر توزيعاً والأقوى نفوذاً وتأثيراً وإن كان من الممكن أن تضع «النهار» في المرتبة الأولى، فمازالت هذه الصحيفة تحظى بإجماع القوى والأحزاب والتجمعات اللبنانية على اختلاف توجهاتها...
ما هو متداول بين العاملين في الجسم الصحافي أن مجموع الصحف العشر وهي «النهار - السفير- الأخبار - لوريان لوجور- المستقبل - الأنوار - الديار - اللواء - الشرق - البيرق» لا يتعدى إجمالي مبيعاتها بعد المرتجع أكثر من 35 ألف نسخة يومياً في حين تصل أرقام الطباعة والتوزيع تصل إلى 80 ألف نسخة يومياً...
قياساً للمؤشرات العالمية في قراء الصحف ونسبة إلى عدد السكان ومستوى التعليم ودخل الفرد فإن لبنان يقع في الصفوف الخلفية لبلد تعداده نحو 4 مليون نسمة لا يزيد عدد قراء الصحف فيه عن 35 ألف قارئ!
الحديث اليوم عن الصحافة اللبنانية فيه الكثير من المطبات والحساسيات فأجواء المنافسة تكاد أن تختفي من الواجهة ولم تعد تشكل هماً لأصحابها والقائمين عليها بقدر ما تذهب جهودهم إلى أماكن أخرى... تتصل بمن يدفع وبمن يقبض!
تحولت الصحف اليومية إلى أحزاب وطوائف يقف وراء معظمها المال السياسي والمشاريع السياسية...
هي صحف لبنانية بامتياز بعدما غابت تلك الصورة التي كان فيها كاتب الرأي يؤثر في الشارع العربي ويحسب له حساباً، انطفأ ذلك الوهج الذي كانت عليها الصحافة طيلة عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات أيام سليم اللوزي وآل تويني وبيت فريحة وكامل مروة ورياض طه وأبوظهر والنقاش والحايك...
تغيرت معطيات الإعلام والدعاية على الساحة العربية وتبدَّلت مواقع التأثير بعدما امتلكت الدول الخليجية المال والإعلام وصار بمقدورها الاستغناء عن الصحافة اللبنانية كواجهة تطل عليها إلى العالم والإقليم وتسعى لإرضائها بشتى الوسائل والإغراءات المالية...
الحرب الأهلية والحروب التي تلتها جعلت الصحف اللبنانية أسيرة للواقع اللبناني بتعقيداته واتجاهاته وحسابات طوائفه وأحزابه وفرض عليها أوضاع اقتصادية قسرية أدت إلى الانحسار وتراجعت الأدوار والرسائل التي تؤديها، فبعدما كان العالم العربي هو الإطار الأوسع والفسيح تقلص إلى ما يرضي هذه الطائفة وذلك الحزب وفي حدود ضيقة تكاد لا تخرج من زاروب أو حي في إحدى المدن اللبنانية...
قد تكون الجرعات السياسية الزائدة التي يتلقاها الرأي العام اللبناني من التلفزيونات والفضائيات المعلَّبة وراء ابتعاد القارئ عن شراء الصحف وقد يكون انتشار الإنترنت والنشر الإلكتروني أحد الأسباب بعدم الإقبال وفي كلا الحالتين هناك «حالة مرضية» يعاني منها الجسم الصحفي...
معظم الصحف وراءها إما طائفة أو حزب أو دولة، بالمعنى التابع والممول، وإن كان البعض يوسع من دائرة العلاقات العامة، ولهذا انحسرت الاهتمامات بالرضا السياسي من قبل الجهة الداعمة لهذه الصحيفة أو تلك، ولم يعد للموضوعية والمهنية والمصداقية من اعتبار قوى وأساسي وأولي كما هو مفترض، بل تأخذ التعليمات اليومية الحيز الأكبر... وصارت أشبه بنشرة أسعار الأسهم، ترسم وبحسب التحالفات والاتجاهات السياسية، اليوم مطلوب أن تفتحوا النار على الزعيم الفلاني وتنفخوا في التجمع الفلاني وغداً تتغير التعليمات وهكذا...
من هنا يمكن الوقوف على حجم الإنفاق الإعلاني للصحف والمجلات وما تشكله من نسب في مداخيل الصحف! قيادي مخضرم في إحدى الصحف الكبيرة لديه معلومات حول الإنفاق الإعلاني والتوزيع، يتحفظ كثيراً بذكر الأسماء ويبتعد عن ذلك لما تسببه من «وجع في الراس»، يقول إن إجمالي الإنفاق الإعلاني على الصحف والمجلات وصل في العام 2009 إلى 145 مليون دولار، منها 48 مليون دولار للصحف اليومية علماً أن موسم الانتخابات
النيابية كان له أثر بالغ في تكبير الحصص بينما المتوقع في النصف الأول من العام 2010 أن يزيد على الـ 135 مليون دولار...
الكلام عن 48 مليون دولار تذهب إلى الصحف اليومية كعائد مالي من الإعلان موزعة على الصحف العشر مسألة فيها نظر، والجمع بينها وبين العائد من التوزيع، يبقى في الحدود الدنيا من المصروفات لأي صحيفة كالرواتب والطباعة والورق الذي تضاعفت أسعاره وأجور الشحن وخلافه...
الحريات والتعبير عن الرأي أخذت منحى آخر، فالمشكلة التي تعاني منها الصحف، هي رقابة أصحاب الصحف، أكثر من رقابة الدولة عليها، فالرقيب الحقيقي هو «صاحبها ورئيس تحريرها» الذي يوزع الولاءات ويحدد الاتجاهات وهذا مسموح وآخر ممنوع، والمشكلة الحقيقية هي مع أصحاب الصحف الذين تنتابهم حالة قلق إذا ما وجدوا يوماً أن هذا الخبر أو ذلك الرأي يزعج ويضايق الجهة المحسوبة عليه، وعندما سألت أحد الزملاء العاملين في الصحافة عن هذه الحالة أجاب «يوجد بوكسات لعدد من الكتاب يحرصون عليها لزوم التوجيه مع الاهتمام بالصفحات الأولى وإبراز ما يخدم مصالحهم وما عدا ذلك يدخل في خانة تعبئة الفراغات»...
المشهد الصحافي ليس بخير وحال الصحافة من حال البلد الذي تجد فيه كل شيء باستثناء ما يعرف «بالدولة» والقاصد إلى مقاهي «الإتوال» و»ليناس» والموزعة بين فردان و «الداون – تاون» والحمراء سيجد ما يبحث عنه من شئون وشجون الصحافة والصحافيين والغسيل المنشور على الحبال النظيف منه وغير النظيف... ومع كل تلك الصورة المأساوية، تبقى بيروت تلك الرئة المنعشة والمغذية للثقافة والرأي والكتاب والصحيفة والمقهى الجميل...
وإن بدت الصورة ملتبسة وقد أصابها شيء من «المرض اللبناني» إلا أن الدور والمكانة لم يعودا كما كان في العصور الغابرة، فبدلاً من أن تكون عاكسة للشارع والهم العربي الكبير بكل تنوعاته واختلافاته ومدارسه والمهنية المتميزة أصبح اليوم محصوراً في أجندات محدودة على المستوى اللبناني وامتداداته الإقليمية المباشرة وذات الأثر والثقل والحاملة للمشروعات السياسية المتناطحة مع بعضها البعض على هذه الرقعة الجغرافية المفتوحة والمشرَّعة على كافة الاحتمالات.
العدد 2902 - الإثنين 16 أغسطس 2010م الموافق 06 رمضان 1431هـ