«أريد أن تمنحيني الموت والكفنا
فقد منحتك عمري والشباب أنا
وقد وهبتك من شعري قلائده
ومن خزائن قلبي ما غلا ثمنا
ومن ضلوعي البقايا من تمردها
ومن جفوني الخيال الحلو والوسنا»
هكذا كان يخاطب غازي القصيبي معشوقته الأولى (البحرين) بالابتسامة والدموع، سائلاً منها أن تكون مثواه الأخير، ومستودع أحلامه، وملاذه الأبدي ليستقر في ترابها على عادة الدلمونيين القدامى... إنه حنين إلى الأرض الذي احتضنته واحتضنها... أحبته فأحبها... وكانت الملهمة له في كل حين، إنه ندى الشوق السرمدي للبحرين... ذاكرة وذكريات.
تبرز البحرين في كل ملمح من ملاح غازي القصيبي، ونراها في كل محطة من محطات حياته الغنية... إنها معشوقته الأولى وأميرة دواوينه وفارسة أحلامه... عشقها طالباً وشاعراً، سفيراً فوزيراً.
كان مولعاً بهذه الجزيرة ومنتمياً ومتيّماً بكل شيء فيها، بجمال سواحلها وبنخيلها وبتنوعها وببساطتها وبانفتاحها. وفي سواحلها التي منحت غازي ساحرية خاصة في قصائده التي أسهب فيها عن متاهات الصيد وعن جمال لؤلؤة الخليج.
البحرين كانت أمه الحنون الثانية بعد أن شاءت الأقدار أن يفقد أمه منذ بواكير طفولته... فهنا قضى غازي القصيبي أجمل أيامه، وظل عاشقاً للبحرين ووفياً لها. حتى بعد اضطراره الرحيل للعمل سفيراً في عاصمة الضباب، كان يقضي في البحرين جل إجازاته، واختارها للنقاهة الأخيرة بعد رحلته العلاجية الطويلة في مستشفيات الولايات المتحدة... وكان غازي على الدوام يفضل حَرّ البحرين الطارد على ربيع المنتجعات الدافئة.
«العلاقة» ليست هي المفردة المناسبة إطلاقاً للحديث عما يربط غازي القصيبي بالبحرين، إنها ليست مجرد علاقة، وإنما هي أبعد من ذلك بكثير... إنها روح واحدة مكنونة في العقل والقلب والوجدان... فالبحرين حاضرة في عيون غازي، وفي ترانيم شعره، وفي مغامرات كتاباته، وفي كل أعماقه.
كثيراً ما تغنّى غازي القصيبي بالبحرين، تغزّل في المنامة، في المحرق، في البديع، في الجسرة المطلة على الجسر الذي كان حلماً يراود غازي فأضحى حقيقة، فراح ينشد أبياته الرائعة في حب البحرين:
درب من العشق لا درب من الحجر
هذا الذي طار بالواحات للجزر
ساق الخيام إلى الشطآن فانزلقت
عبر المياه شراع أبيض الخَفَر...
إلى أن قال:
نسيتُ أين أنا، إن الرياض هنا
مع المنامةِ مشغولانِ بالسمَرِ
على الدوام كان غازي القصيبي جسراً آخر للتواصل في المشهد الثقافي بين البحرين والساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية، وكثيرة هي تقاسمات التشابه بين المنطقتين ولا غراوة في ذلك.
فهنا أبصر القصيبي نبوغته الشعرية مع شاعر البحرين الأكبر المرحوم الشاعر إبراهيم عبدالحسين العريّض الذي يقول عنه غازي في يوم رثاء أستاذه: «يُقال دائماً بأن أستاذي الكبير إبراهيم العريّض هو شاعر الخليج، وأنا اختلف مع هذه المقولة تماماً، إنه كان شعر الخليج»... وجمعت غازي بالعريّض الكثير من المسامرات، وكانا يتناغيان من وحي الثقافة، وكلاهما مسكونان بالحب، حب كل ما هو جميل، وكانت البحرين عشقهما المشترك.
من غير الصواب سجن قامة كبيرة مثل المفكر غازي القصيبي في سجن «مثقف السلطة»، وهو وإن كان ذا حظوة كبيرة في العمل الرسمي، ومقرباً من دوائر القرار إلا أنه كان إنساني الأفق، وكان المثقف قبل الوزير، والشاعر قبل السفير.
وسياسياً لك أن تختلف مع القصيبي في بعض القراءات والتوجهات، ولكن ليس بمقدورك ألا تنجذب لفكر غازي القصيبي وكتبه وما سطرته أقلامه ولا حضوره الاستثنائي الطاغي لعقود من الزمن في صحراء وسواحل شبه الجزيرة. وكان مهموماً بقضايا أمته، وراثياً لمآل أحوالها، ومن أجمل ما كتب متندراً: «يا سيدي مخترع الفياغرا العظيم... يا من صنعت بلسماً قضى على مواجع الكهولة... وأيقظ الفحولة... أما لديك بلسم يعيد لأمتنا الرجولة؟!».
دافع غازي القصيبي باستماتة عن قيمه الليبرالية، إلا أن طبيعة الأرض ومعطيات الواقع، وثنائية الزمان والمكان تكون لها اليد الطولى دائماً، فعملية التغيير مركونة بالتدافع المجتمعي، وبالتحولات التي تفرض نفسها على أي بيئة. ظل محارباً شرساً للتشدد ومدافعاً بحزم عن قيم التنوع... أسعفته الثقافة ليكتب محرمات السياسة، والدليل إن الحرمة المفروضة على بعض كتبه وكتاباته لم ترفع إلا قبل أسابيع خلت رغم موقعه الرسمي المتقدم.
وكان غازي القصيبي من المؤمنين بحقيقة التنوع في البحرين، وداعياً لحفظ هذا الفسيفساء الجميل، ويستحضرني كلام مهم في هذا الصدد لغازي القصيبي في كتابه الشهير «حياة في الإدارة» حين يتحدث عن التنوع هنا قائلا: «البحرين مجتمع صغير يضم أكثر من طائفة، وتحكمه تقاليد من التسامح الديني تعود إلى وقت بعيد، ويعرف الناس فيه بعضهم بعضاً. في هذا المجتمع، ككل مجتمع، حساسيات على كل سفير أن يراعيها. في مجتمع البحرين سرعان ما يصبح أي نشاط يقوم به أي سفير، مهما ظنه خفيّاً وذكياً، سراً مكشوفاً يعرفه الجميع، ومن الغباء تغليب أحد على أحد».
اليوم، دعونا نستذكر المنامة من وحي عيون غازي الذي راح يغازلها بحروفه الصادقة ونبض أحاسيسه الفياضة:
الضوء لاح فديت ضوءك في السواحل يا منامة
فوق الخليج أراك زاهية الملامح كابتسامة
المرفأُ الغافي وهمتُه يُهنئ بالسلامة
ونداءَ مئذنة مضواءةٍ ترفرف كالحمامة
لقد قال غازي القصيبي عن وهج الحنين لها ذات يوم: «أصعب لحظات حياتي حين أغادر البحرين»، أما نحن اليوم فنقول لغازي: «أصعب اللحظات حين تغادرك البحرين».
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2901 - الأحد 15 أغسطس 2010م الموافق 05 رمضان 1431هـ
يا للروعة!
لقد أنطقت الحزن عشقا و عرفانا أخي حيدر لك فشكرا لك أخي الكريم و شكرا لدافئ احساسك و نبله. و الله أحسست بجلدي يتنمل و أنا أقرأ ما سطرت فقد ذكرتنا به ان أمثال القصيبي يظلون أحياء بكل عطائهم و جميل ما أعطونا..رحمه الله
كم أنت رائع يا حيدر
حسك المرهف ولغتك القويمة، واسلوبك الراقي دائما ما يأسر القارئ والانجذاب الى مقالاتك، بغض النظر عن الموضوع. وانت اليوم تؤبن القصيبي هذا الشخص والشاعر والمفكر والانسان الكبير في نفسه وعقله وشعره وعلمه يحق لي أن أبارك لك روعة الإطراء والرثاء في فقيد الأدب العربي المعاصر، ويحق لي أن انعى الأدب العربي بفقده علما من أعلامة الرفيعة الشامخة في سماء الوطن العربي الذي هوى في شهر رمضان الكريم
رحمك الله ورحم معشوقتك البحرين
لقد هام الفقيد رحمه الله بالبحرين عندما كانت البحرين الأصيلة!! بحرين الأمن!! بحرين السلام!! بحرين النخيل!! بحرين الشواطئ!! بحرين المواطن الذي روى أرضها بعرقه حتى أضحت بلد المليون نخلة!! أما الآن فهو رحمه الله سيكون شاهداً أمام الله على من عاث في أرضنا الفساد ، فاستبدل إنسان هذا البلد بهمج رعاع ودمر المزارع والنخيل ودف البحر والشطآن وطمر العيون العذبة وجعل أعزة أهل هذه الأرض أذلة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون