العدد 2899 - الجمعة 13 أغسطس 2010م الموافق 03 رمضان 1431هـ

مَرَاجِعُ النَّجَفِ الأشْرَفِ ومَعْرَكَتهم مَعَ الأحْزَابِ الحَاكِمَة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تابعوا الأحداث جيداً. أُسقِطت العاصمة العراقية بغداد في التاسع من أبريل/ نيسان من العام 2003 بحجّة استبدال نظامها «الشّمولي» بآخر «ديمقراطي». حُلَّ الجيش ومؤسسات الدولة على يد الحاكم المدني بول بريمر لكي تُنَشأ المؤسسات على أسس تتناسب و«الديمقراطية» المجلوبة.

انفرط عقد القوّة هاوياً من على أكتاف الدولة المنهارة على رأس مخزون بشري وحزبي واجتماعي غير مُنظّم، أنِيْطت به «وبغباء» تصفية وتفتيت بقايا النظام السابق والانتقام من نموذجه كيفما اتّفق، وتثبيت النظام الجديد المُسمَّى بـ «الديمقرطي».

يثوَّرَ الجميع لصالح انتماءاتهم المذهبية والعشائرية والإثنية. وبدأ الزفير والشهيق ينفخ الصّدور. ولأن المعركة لم تكن طبيعية لا في حجمها ولا في مداها، ولا في هدفها السياسي، فقد دَخَلَ الإرهاب مع الأطراف المتناحرة وضدها، واختلط في معركة مُستغرِقة في الدّم بلا حدود.

تكوَّمَت شوارع بغداد بالجثث. بعضها تفحّم بفعل التفجيرات، وبعضها تمّ إنضاجه حتى الشِّواء بفعلٍ يدوي مباشر! وَصَلَ الأمر بالعوائل لأن تُوْشِمَ أبناءها بعلامات دَالَّة على نَسَبِها، لكي يتمّ تمييزها بعد القتل والتمثيل بجثثهم. يالله... كم كان الأمر مريعاً ومهولاً.

حينما كنّا نسمع بتلك الأنباء تِباعاً، نسمع بمحاذاتها أيضاً «سميفونية» تقول: بأن تلك المعركة هي ضريبة الحرية والديمقراطية! مَضَت الأمور على ذلك المنوال حتى العام 2008. توقّفت عربة القَتَل في الميدان بُرهة من الزمن، لتنتقل إلى السياسة. ثم ارتدّت مرة أخرى إلى الميدان وبصورة أشد. وفي حومة ذلك الارتداد، كانت سيمفونية الديمقراطية ما زالت تعمل.

تكرّر المشهد المؤلِم حتى جَبَّ سابقه لاحقه. وأنسَى بعده ما قَبْلَه. كلّ ذلك باسم الديمقراطية المجلوبة. اقتنع الجميع لاحقاً بأن هذه الديمقراطية باهظة الثمن حتى السَّفَه. ولم يكن الجرح العراقي وعاهاته بقابِلٍ لأن يدفع مثل هذه الكُلفة الباهظة لكي يحصل على «ديمقراطية» مهمَا كانت بَرَكَتُها. فقد أفقده العلاج ما أسرف البعث في تبذيره طيلة 30 عاماً على مرضه.

ورغم هذه الكلفة الفادحة، لم يفلح العلاج «الديمقراطي» في إزالة الورم «الشمولي». بل إنه أنتَج وَرَمَاً مُزدوجٌ في نفثه لخلايا قاتلة. ظَهَرَ الفساد المالي والإداري بأبشع صوره. وتفشّى القتل على الهوية. واحتُلّ البلد، وترنّح الإطار الجامع للناس وهو الدولة، لصالح الأطراف. ورُحِّلَت جميع ردّات الفعل إلى المستقبل المجهول، الذي سيعيث في أيامه مجتمع عشائري مُنتَقِم.

وبدأ الحديث يدور حول هذا الإشكال: ما الفائدة في أنني أشتم مسئولاً سياسياً في الدولة، لكنني لا أستطيع أن أكون بمنأى عن القتل وتأمين الحياة الكريمة لي ولأسرتي. والصّد عن الاعتقال في سجون خاصة يُمارَس فيها التعذيب. ما الفائدة في أن أحصل على الزّاد واليُسر المادي، في حين يوجد بجانبي 5 ملايين يتيم، ومليونا أرملة. وأربعة ملايين مُهجّر. إنه إشكال مشروع.

فُقِدَ كلّ شيء في العراق. النُّفُوس. الحُرُمات. قيم الحياة الطبيعية. حتى تاريخ العراق منذ أيام الأكدين والسومرين والآشوريين والبابليين... تمّت سرقته وشُحِنَ إلى الخارج. تمّت المتاجرة بأطفال عراقيين في السوق السوداء يُسَمْسَر بهم في اثنتي عشرة دولة. تُباعُ أعضاؤهم تحت طاولات القمار، ويُسبَى بعضهم إلى غُرَف الإمتاع الجسدي المُبتذَل. فأيّ ديمقراطية هذه؟!

سُرِقَت ثروات العراق على يد الأحزاب الحاكِمة. واستولى أصحابها على قصور صدّام التي كان يُعَيَّب بها، وسكنوها هم وعوائلهم. ورُبِّعَت الأراضي وتسوَّرَت للسّاسة الجُدد. وأطلِقَت أزيد من خمسين قناة فضائية وإذاعة عراقية تُسبِّحُ وتلهَج بإفاضات مالكيها من الأحزاب والأفراد. تُسَمِّنُ الغَثّ، وتُعظِّم صغار القوم.

وأمام هذه الفضيحة المُدوّية، لم يبقَ من العراق أمام هذه الأحزاب سوى أضرحته المقدّسة وأرباب دينه من مراجع التقليد العظام لم يُثَمِّروا بهم نهجهم السياسي. وهو باعتقادي خطر لا يقلّ عن سابقه. لأنه استحلاب بغرض التستّر، واحتماء من وراء جُدُر.

لذا فقد بدأ هؤلاء في الحجّ السياسي إلى مراقد الأئمة ومراجع التقليد. تبرّكوا بأسمائهم طمعاً في حظوة اجتماعية. ومهروا مكاتبهم بصورهم. ودوّنوا في الدستور ما يصلهم بالسياسة وشئونها. ليس حباً فيهم، وإنما لإدراكهم مدى تأثير ذلك الأمر على الناس.

وأصبح الخصمان اللدودان، يدخلان إلى المرجع الديني كلٌّ على حِدَة، فيخرجان منه منتصرين على بعضهما البعض. يقول الأول إن «سماحته» بارَك وعَمَّد، ويقول الثاني إن «سماحته» أثنى وسدَّد. وفي الأصل أن كليهما كاذبان. فهم إن سَمِعُوا شيئاً فهو أعمُّ من أن يوصف، أو يُخصّص.

لقد استغلّوا عُزلة حوزة النجف الأشرف عن الحِراك السياسي طيلة أربعين سنة. وزُهدم في الدنيا. وقسوة الحياة التي عاشوا فيها منذ «الانتفاضة الشعبانية» في العام 1991 ليقولوا لها من طَرَفِ «الدِّين» ما يَسُر ويُرضِي. ويأخذوا منها في «السياسة» ما يَسُرّهم ويُرضيهم. وهو أبشع أنواع الاستغلال.

عندما تسمع زعماء الأحزاب العراقية وعن علاقاتهم مع المرجعية الدينية، تحسَب أنهم ذَرَارِيْها وطَوْع يديها. لكنهم غير ذلك تماماً. ينتقون ما ينفعهم منهم. ويرمون ما يتعارض مع ذواتهم ومصالحهم عرض الجدار، فهو في نظرهم زُخْرُفٌ من القول لا ينفع.

أدركت ذلك جيداً من خلال البحث والسؤال والمشاهدة. فعندما تقترب من مكاتب المراجع تسمع السّخط على هذه الأحزاب من المراجع أنفسهم، لتدرك لاحقاً، أن ما تقوله فضائياتهم جهاراً ما هو إلاّ افتراء وتقوّل على المرجعية، والمرجعية منه براء.

سُئِلَ أحد المراجع الأربعة الكبار في النجف الأشرف وكنتُ حاضراً أسمع: متى ستتشكّل الحكومة العراقية؟ ابتسَم وعقّب بهذه الآية: «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ». كلّ حزب يرى أنه الأصلح للسلطة. هم يرون مصلحتهم أولاً. في بريطانيا تشكّلت الحكومة في ثلاثة أيام، أما في العراق فإن الأمر مضى عليه أشهر دون أن تتشكّل الحكومة. ما دامت هذه الأحزاب حاكِمة فلا خير يُرتَجَى. (انتهى كلام المرجع).

المسئولية اليوم في العراق هي أن يُقطَع الطريق أمام هذه الأحزاب العراقية الحاكِمة (وغير الحاكمة أيضاً)، لكي لا تحاصر مدينة النجف الأشرف ومرجعيتها الدينية، بغرض التثمير السياسي. فالخطر داهم. ومحاولتهم في ذلك باتت مكشوفة، لا يسترها شيء.

وإذا كان هذا النموذج المُتَاجَر به قد أخفق وتلبَّد، فلا أحد يدفع ثمنه سوى أصحابه. أما التجيير، واستخدام الدروع الدينية فهي بمثابة حرب لا تقلّ عن أيّ حرب غير شريفة، يخوضها المهزومون في مبادئهم. وهو الوصف الذي يليق بالأحزاب العراقية.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2899 - الجمعة 13 أغسطس 2010م الموافق 03 رمضان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 4:33 ص

      رئيس الوزراء

      منصب رئيس الوزراء في البلدان الديمقراطية يكون بواسطة الانتخاب فلو كان كذلك في العراق لانتهت الازمه ولكنها الديمقراطية المزيفة(واما عن المرجعية في رأيي القاصر لوكانت تؤمن بولاية الفقيه لانتها الامر)

    • زائر 3 | 4:04 ص

      شكرا

      مقال ممتياز استاذ محمد

    • زائر 2 | 2:34 ص

      اضافة 2

      صحيح انهم كانوا غائبين السياسة منذ زمن لكن ذلك يمنع درايتهم بالامور وبالتفصيلات السياسية والاقتصادية وغيرها فالله هو المسدد والملهم والحافظ . اتمنى من الجميع ادراك ذلك وعدم التهويل والخوف

    • زائر 1 | 2:32 ص

      قيادة الامة

      المراجع العظام حفظهم الله ورعاهم يعلمون ما يحاك ضدهم من مؤامرات وهم ادرى من الجميع بمصلحتهم فالذي يقود امة لا يستطيع ان يقود بلد به جزء من هذه الامة .

اقرأ ايضاً