العدد 997 - الأحد 29 مايو 2005م الموافق 20 ربيع الثاني 1426هـ

الإعلام المبتذل "على الهواء مباشرة"

عادل مرزوق Adel.Marzooq [at] alwasatnews.com

-

"إنهم أصحاب التفكير السريع "Fast - Thinking" الذين لا يهتمون أساسا بما يطرحونه بقدر ما أنهم يريدون الاندماج في المجال التلفزي واقتراض رأس مال شهرة سريعة".

عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو

لم يكن عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو صاحب مواقف عدائية مع الإعلام، ومع أنه حاول فضح سلطة الإعلام ومجمل النظم التي تتحكم به، أو التي يتحكم هو بها تجاه المتلقي، فلقد كان بورديو رجلا إعلاميا إن صح التعبير، إذ عمل كمحرر لافتتاحيات بعض الوسائل الاعلامية، وكان مسئولا عن إصدار سلسلة تثقيفية بعنوان "الإدراك العام"، كما أصدر مجلة "أعمال أبحاث العلوم الاجتماعية"، وساهم في تجربة "بيير" التي كانت ملحقا لعدد من الصحف الدولية وفي سلسلة كتب "دواعي العمل".

يقسم بيير بورديو الإكراهات التي تتحكم بالحقل الإعلامي الى آليتين اثنتين، الأولى تتعلق بالآليات الداخلية في مؤسسات الإعلام، تتمثل في مجمل الأنظمة التي تحكم عمليات الإنتاج الإعلامي، سواء تلك المتعلقة بالأيديولوجيات المؤسسة، أو تلك القواعد التنظيمية في الإخراج الفني التلفزيوني كالتوقيت وشخصيات الضيوف، أو نظم التسليم والاستلام لجميع المواد الصحافية من أخبار ومقالات في جدول زمني محدد ومنظم.

أما الآليات الخارجية، فتتمثل في شركات الإعلان والدعاية، وفي ذلك الجمهور الذي يفرض على القنوات الإعلامية والصحافية ما يريد، فالعلاقة بين الشركات المعلنة ورغبات الجمهور علاقة عضوية لا تنفك.

عبر هذه الأنظمة الضابطة، يتحول الحقل الإعلامي إلى وسيط بين الحقول الأخرى، وفي حقيقته يخرج عن إطاره الرئيسي، وهو خدمة المجتمع والصالح العام ورعايته، ليتحول الى مجرد إطار حاضن للعلاقات المتبادلة بين الحقول الأخرى، فتنتهي إستراتيجيات سلطته، لتتحول الى إستراتيجيات موضوعة أو مفروضة، أو إلى إستراتيجيات تتعلق بالسلعة وبيع وترويج السلعة في المفهوم الرأسمالي للإعلام، أو ارتباطا بالمفهوم الكلاسيكي للتسويق التجاري.

جزيرة ولبننة الإعلام العربي

يذهب بورديو في مجمل قراءته الى أن المنتجات الإعلامية تتجه لأن تأخذ شكلا واحدا وتركز على موضوعات مشتركة، فالصحافيون في التلفزيون يأخذون عن بعضهم بعضا في "لعبة جماعية" يقومون بها، عبر ما يمكن تسميته بـ "الانتقال الدائري للأخبار"، وذلك من جهة إلى جهة أخرى بما يعطي واقع وجود سياج إعلامي في النهاية. وهذا ما يتضح عبر موجة "جزيرة الإعلام العربي" إخباريا، أو "لبننة الإعلام العربي" فنيا واجتماعيا.

قناة "الجزيرة" استطاعت عبر رواجها الكبير، أن تلعب بأوراق الفضائيات الإخبارية، ولولا أنها تمثل خروجا غير تقليدي عن سياق الإعلام العربي الخاضع لمصالح الحكومات، لكانت الشركات التجارية في سباق محموم للإعلان في "الجزيرة"، لكن الملاحظ أن الحكومات العربية حاولت أن تنتج أكثر من "جزيرة" مضادة، وهذا يؤكد ما ذهب له بورديو، فنجد "أبوظبي" الإخبارية و"العربية" وغيرها.

كان نموذج الإعلام الترفيهي والفني للقنوات اللبنانية ذا تأثير مهم وجدير بالملاحظة، ولقد استطاع أن يسحب البساط من المؤسسة الإعلامية المصرية، وبات واضحا للجميع ما تمتلكه المذيعات والعقول الإعلامية اللبنانية من "جمال" أو ذكاء في التوظيف الإعلامي. لذلك أصبحت هناك دائرة من الانتقال المضموني للنموذج اللبناني الى الكثير من القنوات، كقناة قطر، او القنوات الإماراتية. وهذا لا يمنع وجود نماذج خارجة عن الدائرة كقناة "الشارقة" الإماراتية.

هناك الكثير من الاستنساخات الإعلامية العربية، "من سيربح المليون" للإعلامي جورج قرادحي في "إم. بي. سي"، ترد عليه "أبوظبي" الفضائية عبر "وزنك ذهب". والاتجاه المعاكس في "الجزيرة"، يستنسخ بإضاءات لتركي الدخيل في قناة "العربية". هذه الصور المستنسخة تلعب في صوغ واقع إعلامي متكرر ورتيب، يخضع لمطرقة السياسة والاقتصاد تارة، ولما يريده الجمهور تارة أخرى.

ثقافة الإعلام لا ماركسيته

يذهب بورديو الى رفض التحليل الماركسي المطلق للمشكلة الإعلامية العالمية، ويحاول أن يخرجها عن إطار الاقتصاد الى إطارات ثقافية عامة، وبهذا يكتمل - كما يعتقد - الإطار العملي لعالم الاجتماع بالغوص في اللامفكر فيه، وفي الكشف عن الأسرار غير المعلنة، أو المعلنة من دون قراءة أو نص.

ويذهب البرفسور الفرنسي باتريك شامبانيي في مؤلفه الجماعي، إلى توصيف التلفزة بمنظار بورديو، الى أنها تفرض سيطرة اقتصادية وضابطا ثقافيا رمزيا في المجال الصحافي، فارضة بذلك نمطا من "الصحافة السهلة" صحافة الإثارة والإبصار المشهدي والتهييج العاطفي مقابل "الصحافة الجدية"؛ صحافة الإعلام الرصين، والتحليل والرأي ووجهات النظر، هذا واحد من الأسباب التي تجعل من بعض الصحافيين اليوم خطرا، لأنهم يروجون من دون أن يحتسبوا "ديمقراطية المبتذل".

كل هذا يتم عبر خضوع الإعلام لمنطق الإكراه التجاري، وما يرغب به الجمهور، وعبر وسيلة تؤثر على عاطفة الجمهور، يحاول الإعلام الإدعاء والزعم بملكية الرأي العام، بل يفرض هذه الرؤية بطريقة خطيرة ومؤثرة، وهكذا يصل أحد صحافيي التلفزة الفرنسية، "دانيال شيندرمان" الذي هاجم بورديو قائلا: "في كل الأحوال فإن الصحافي قاض"، بمعنى آخر فإن التلفزة لا تتجه لأن تأخذ لنفسها "سلطة إعلامية" وحسب؛ وإنما أيضا "سلطة قضائية" في الحياة الديمقراطية.

مفهوم السلطة الثقافية

على رغم أن الإعلام المرئي هو نتاج مباشر، إذ تتبجح القنوات بعبارة "مباشر"، على رغم أنها في الحقيقة أعدت لهذا النقل كل شيء، منذ الشخصيات المختارة للمقابلات وصولا إلى أسماء من سيتصلون من المتداخلين، ويعبر بورديو عن هذا بـ "الرقابيات اللامرئية" أو "العنف الرمزي".

يقول بورديو "في الماضي كان الضيف يحظى بحدود 80 إلى 85 في المئة من وقت النقاش، بينما كان الصحافي الذي يدير المداخلة لا يحظى إلا بحدود 10 - 15 في المئة من هذا الوقت. واليوم انقلب الأمر كليا ليحظى الصحافي بحصة الأسد في الكلام، وليتولى إعطاء حق الكلمة أو الرأي لبعض المتداخلين أكثر من غيرهم، بل وإسكات البعض منهم".

لهذه السلطة، آثار ثقافية لابد من تتبعها والكشف عنها. فالتلفزة أصبحت تنتج ثقافة خاصة بها، إلا أنها لا تخضع لأي منظور معرفي خاص، بل هي وليدة الإعلان والاهتمام الشعبي اليومي، قد لا أميل الى وصفها بالسلبية المطلقة كما ذهب بورديو، ويتجلى هذا في مواقفه الرافضة لإجراء المقابلات التلفزية أو مع الصحف والمجلات، لكن هي حالة ثقافية غير مهتم بها، وليست خاضعة لدراسات أمبريقية متكاملة.

* كاتب بحريني

إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"

العدد 997 - الأحد 29 مايو 2005م الموافق 20 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً