"العلمانيون" في لبنان في محنة انتخابية، فهم يتضاربون ويتنافسون لاسترضاء هذا الزعيم أو ذاك القائد لأخذ بعض مترشحيهم على تلك اللائحة أو هذه. وحتى الآن لا من مجيب أو سميع إلا في حالات نادرة.
لبنان بلد طائفي، ومشكلة "العلمانيين" الذين مضى على تأسيس أحزابهم أكثر من سبعة عقود "الشيوعي في العام ،1924 والسوري القومي الاجتماعي في العام 1932" فاتتهم هذه البديهة. وبسبب ضعف إدراك الواقع أصبحت محنة "العلمانيين" مزدوجة: واحدة في التعامل مع الواقع وأخرى في وعي الواقع.
ونظرا إلى ازدواج المحنة تصبح حال "العلمانيين" في فترة الانتخابات مزرية. فهم يقضون أوقاتهم بنقد النظام الطائفي الذي لم يلحظ مقعدا لهم في البرلمان، وحين تأتي الانتخابات يتفرق "الرفاق" إلى طوائف ومذاهب. فهذا الرفيق أرثوذكسي وذاك ماروني وهذا شيعي أو درزي. وفي أقل من أسابيع تتحول الايديولوجيا إلى بخار يتلاشى لحظة اصطدامه مع الواقع.
لبنان بلد طائفي. وهذا من البديهات المعروفة عن البلد الصغير "الجميل في طبيعته وتنوعه" والصعب في قيادته سياسيا. وبسبب طائفية البلد تحولت الأحزاب "العلمانية" و"اليسارية" و"الشيوعية" إلى أقليات سياسية تستدر أحيانا العطف والشفقة ليس بسبب أفكارها وإنما نتيجة قلة تفكيرها في تركيبة لبنان وعناصر قوته وضعفه وآليات إنتاج السياسة وكيفية صنع القيادات فيه.
هذا الضعف في التحليل "القراءة الموضوعية للواقع" أنتج سلسلة أفكار هي أقرب إلى الايديولوجيا "تزوير الواقع" وأشبه بتمنيات ورغبات تسقط على أرض طائفية ولا تنتج سوى طائفيين.
أمر هذه الأحزاب محزن وخصوصا حين تقترب مواعيد الانتخابات ويبدأ الأقطاب بتشكيل اللوائح. فالأحزاب العلمانية وأخواتها تتحول إلى مجموعات يتيمة ومنبوذة لا يتصل بها الأقطاب ولا تقترب منها القوى السياسية الفاعلة ميدانيا.
مشكلة هذه "الطائفة" من الأحزاب العلمانية أنها تقرأ الواقع أيديولوجيا وتتوهم أن الناس معها وأنها قادرة على اجتراح المعجزات وفعل ما تريده، وأن هناك مؤامرة ضدها. وأحيانا تبالغ هذه "الطائفة العلمانية" في قوتها الشعبية وتتهم خصومها أو القوى المتحالفة معها سياسيا بتركها وحيدة وعدم الاعتراف بوجودها.
هذا غير صحيح إذا نظر إلى الأمر من وجهة الانتخابات وقدرة "العلمانيين" على التعبئة والحشد وجلب الأصوات إلى صناديق الاقتراع.
من الناحية السياسية "الايديولوجية" تتمتع "طائفة العلمانيين" بصوت عال يتجلى في إصدار البيانات وعقد المؤتمرات الصحافية وخوض معارك نقابية جزئية هنا وهناك، وكذلك تملك "ماكينة" تنظيمية عندها القدرة على تجييش الناس للدفاع عن مطلب اجتماعي.
المشهد يختلف إذا نظر إليه من الناحية السياسية "الواقعية". فإمكانات تلك الطائفة من الأحزاب العلمانية تتراجع عدديا أمام تعداد الأصوات في مناخات الحشد الطائفي - المذهبي التي تحصل في مختلف المناطق للاقتراع إلى هذا المترشح أو تلك اللائحة الائتلافية. ففي وضع انتخابي تطغى عليه المنافسات على أصعدة تتحكم فيها العائلات والطوائف والمذاهب تتراجع الأيديولوجيا "العلمانية مثلا" لمصلحة أفكار تتحكم في إنتاجها آليات سياسية تشبه إلى حد كبير تلك البنى التقليدية السائدة في المحافظات والأقضية من شمال لبنان إلى جنوبه ومن عاصمته إلى بقاعه.
الحسابات الانتخابية تختلف عن تلك التحالفات السياسية التي تلعب فيها "الايديولوجيا" أحيانا دور الناظم للعلاقات. فالحسابات الانتخابية تعتمد قراءة لها صلة بالقدرة التصويتية والمقدرة على الحشد والتعبئة. وفي هذا السياق تصبح أصوات طائفة العلمانيين هي الأضعف، وأحيانا يكون مجموع أصوات هذه الأحزاب "غير الطائفية وغير التقليدية" في كل لبنان أقل من أصوات حي في بيروت أو عائلة في البقاع أو عشيرة في عكار أو زعامة وراثية في كسروان وجبيل والبترون والشوف.
"العلمانيون" في محنة وهي بدأت الآن مع بدء المعركة الانتخابية في بيروت. فاليوم مثل كل أربع سنوات، تسمع صرخات تلك "الطائفة العلمانية" التي تبحث عن نصير يأخذ بيدها في هذه اللائحة أو تلك، ولا من سميع ولا مجيب لطلباتها المتواضعة. إنها محنة ومشكلتها تبدأ في "العقل" العلماني وتبسيطه لتعقيدات الواقع
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 997 - الأحد 29 مايو 2005م الموافق 20 ربيع الثاني 1426هـ