ربما يسخر البعض إذا ذكرت لهم أن معهد البحرين للتدريب، قام بفتح قسم لتدريب البحرينيين على أعمال البناء. هذا القسم أغلق منذ فترة طويلة جدا "ربما مطلع التسعينات"، وقد أوكل لرئيسه مهمات أخرى؛ ويبقى السؤال: لماذا تم فتح القسم؟ ولماذا القسم مغلق حاليا؟
قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما، كان عامل البناء والذي كان يطلق عليه "أستاذ" يتقاضى 12 دينارا يوميا، وكان العامل الذي يساعده يتسلم 6 دنانير. وهذا الراتب كان يعتبر مغريا في ذلك الحين، لذلك فتح القسم. أما لماذا أغلق، فالجواب سهل، فهل يعقل أن يظل القسم مفتوحا بعد أن هبط راتب العامل الماهر في البناء الى 3 دنانير في اليوم؟ والسبب هو سياسة الباب المفتوح لتدفق العمالة الأجنبية بلا قيود.
نرجع إلى دراسة ماكينزي، ومحاورها الثلاثة التي تتمثل في إصلاح الهيكل الاقتصادي: إصلاح الاقتصاد، وإصلاح التعليم، وإصلاح السوق. والرؤية - بحسب فهم الكاتب - تتبلور في الآتي: عندما نصلح الاقتصاد، فإن تدفق الاستثمارت وفتح المشروعات تحتاج إلى أيد عاملة ذات كفاءة، لذلك لابد من إصلاح التعليم حتى تتوافر سوق العمل على الكفاءات المؤهلة لإدارة الأنشطة الحياتية الاقتصادية.
ولكن ما مدى صحة وأثر محور إصلاح التعليم في توفير وظائف ذات رواتب مجزية للمواطنين؟ وإذا كان التعليم مرتكزا اساسيا لتحقيق التنمية وتشغيل المواطنين، فإننا نعتقد أن مشكلة التعليم عندنا في البحرين ذات دور محدود ونسبي في مشكلة البطالة والتعطل، ولا يمكن أن يسهم إصلاح التعليم بدور كبير في حل مشكلة البطالة مادام الإطار لم يتغير، والمتمثل في السماح باستجلاب الأيدي العاملة الرخيصة وفي كل القطاعات بلا استثناء، إضافة للأسباب الأخرى كالتمييز مثلا.
عندما يتخرج الجامعي بدرجة بكالوريوس هندسة، ولكن الوظيفة التي ينالها فني أو سكرتير ذات راتب متواضع، فماذا نطلق على هذه المشكلة مع وجود فائض من الوظائف الهندسية يشغلها الأجانب؟ ما فائدة المهارة إن كان الأجنبي الآسيوي يتوافر عليها بمبلغ لا يكاد يسد رمق المواطن البحريني في حاجاته اليومية؟ وما الفرق بين استجلاب أيد ماهرة في البناء أو الميكانيكا، والنتيجة السابقة واحدة، وهي تعطل المواطن أو القبول براتب ضئيل؟
إذا المشكلة الحقيقية ليست فقط في التعليم، وإذا تعرفنا على المشكلة أحرزنا نصف الحل، ولو استنطقنا أرقام وزارة العمل لعرفنا السبب الحقيقي، فما زال معدل العمالة الأجنبية المتدفقة على البحرين في زيادة تفوق نسبيا عدد العمال البحرينيين الذين يدخلون سوق العمل، وما دامت الدولة خالية من وجود تشريع يضع ضوابط وكوابح فاعلة في هذا المجال، وخصوصا فيما يتعلق بطلبات المؤسسات ذات الدخل العالي كالشركات الكبيرة التي تدفع رواتب مغرية للأجنبي فضلا عن البحريني، فمن المشكوك فيه أن يتم حل المشكلة عن طريق وضع رسوم إضافية على استيراد العمالة الأجنبية. ومن هذه الشروط مثلا، أن تكون السوق خالية من المواطن الكفء الراغب في العمل في هذه الوظيفة أو تلك.
دولة عظمى كالولايات المتحدة، قوتها الاقتصادية تفوق اجتماع القوة اليابانية مضافة إليها ألمانيا، وعدد سكانها يفوق الـ 260 مليون نسمة، ومع ذلك لديها قوانين تحد من استيراد العمالة الأجنبية، وتشترط عدم وجود أميركي كفء يمكن أن يشغل هذه الوظيفة أو تلك. والأمر نفسه ينطبق على الدول الآسيوية التي أحرزت نجاحا اقتصاديا. ومع ان الولايات المتحدة تروج لعولمة النظام الاقتصادي القائم على حرية السوق وسيادة قانون العرض والطلب من خلال اتفاقات رفع الضرائب الجمركية على انسياب السلع بين الدول، ولكن عندما تصل المسألة لانسياب وحرية تنقل القوى العاملة، لا تتردد هذه الدولة العظمى عن سن القوانين المقيدة لدخول العمالة الأجنبية لبلادها. هذا مع أن قانون العرض والطلب النابع من البحث العلمي على مجتمع يتبنى النظام الاقتصادي الرأسمالي يعتبر قوة العمل التي يعرضها العامل سلعة، حالها حال السلع المادية، كلما زاد المعروض قل الأجر. مع هذا فإن الولايات المتحدة الذي تعتمد هذا النظام الاقتصادي، تدرك أنها إذا فتحت بلادها للجزء الآخر من العولمة، وهو انسياب القوى العاملة بين البلدان، سيخل بمعادلة التنافس الداخلية بين أقطاب المجتمع الأميركي، عندها لن يجد المواطن الأميركي وظيفة ملائمة ذات دخل يتناسب مع الحياة المعيشية هناك. ومن هذا المنطلق تفرض الدولة الأميركية تلك القيود المعوقة لدخول العمالة الأجنبية، هذا في الوقت الذي يصرخ اقتصاديونا ويرفعون شارة العولمة الحمراء في وجوهنا عندما نطالب بوضع قيود على استجلاب العمالة الأجنبية كما تفعل الولايات المتحدة.
وفي بلد صغير كبلدنا، ليست سوى لقمة ضئيلة قبال إحدى الشركات العابرة للقارات، أو ما يطلق عليها الشركات المتعددة الجنسية، خصوصا الأميركية منها، والتي تصل أملاكها ومداخيلها السنوية إلى أضعاف موازنة المملكة، بل أضعاف مجمل الناتج المحلي، في بلدنا تغرق السوق بمختلف الجنسيات من العمالة الرخيصة في كل القطاعات، وفي عملية ممعنة في محاربة المواطن في رزقه، تستجلب أعداد من آسيا وغيرها لينافسوا المواطن حتى في غسل السيارات. وكل ما في الأمر، أن هناك من المتنفذين ورجال الأعمال من لم يزل لم يرو ظمأه لجمع المال، لذلك تستورد العمالة السائبة حتى لو تعطل عن العمل أكثر من عشرين ألف مواطن "كما هو الحال". هذا في الوقت الذي تشكل فيه قوة العمل الأجنبية أكثر من 60 في المئة من إجمالي قوة العمل، بعدد يفوق الـ 196 ألف عامل أجنبي.
وما يزيد من حدة المشكلة، سياسة الدولة في التهرب من مسئولياتها تجاه المواطنين، وهذا سبب رئيسي في تعطل عدد كبير من الأيدي العاملة الوطنية. فمثلا، تقوم الدولة بتشغيل عدد من محطات البنزين التابعة لشركة بنوكو "سابقا" وشركة نفط البحرين حاليا، عن طريق المقاولين، مع ان الوظيفة ليست ذات طابع مؤقت، ويقوم هؤلاء بتوظيف البحرينيين بمبالغ ضعيفة لا تكاد تتجاوز الـ 180 دينارا، فلماذا لا توظف الدولة هؤلاء مباشرة، وتدفع إليهم رواتب معقولة بدل "البهدلة" مع المقاولين؟
وإذا كانت الحكومة مصرة على إبقاء عملية تدفق العمالة الأجنبية بلا قيود حقيقية، فعلى الأقل يتم استهداف قطاعات معينة كالشركات الكبيرة، والمؤسسات ذات المداخيل العالية والأجور المجزية، فالتنمية التي تتنادى لها الأمم لا تتحقق ببناء وإنشاء المصانع إذا كان من يديرها ويعمل فيها هم الأجانب.
التنمية تتطلب أن يكون المواطن هو محورها وهو الهدف والوسيلة لتحقيقها، وهو الذي تتراكم لديه الخبرات لينقلها للجيل الذي يليه. والتنمية محكوم عليها بالفشل حين تتعمد بعض هذه الشركات تسريح المواطنين من ذوي الكفاءة والعلم على أساس طائفي، وذلك بدفع مبالغ مغرية إليهم ليختاروا التقاعد المبكر، ثم يتم توظيف آخرين مكانهم على الأساس الطائفي الخاطئ نفسه. ولا يختلف ذلك عمليا عما تقوم به الحكومة من خصخصة لا تراعي شتى زوايا اقتصاد السوق الحر، فتسمح بتدفق العمالة من الخارج بلا قيود، فتخل بمبدأ المنافسة القائم على قانون العرض والطلب، وبذلك تميل كفة رجل الأعمال على حساب المواطن العامل، في الوقت الذي لم تقر الضمان الاجتماعي للمتعطلين عن العمل.
إن المؤشرات تقول إن المشكلة الحقيقية لا تكمن فقط في كفاءة التعليم، ولا الحل السحري في رفع الرسوم على العمالة الأجنبية بصورة عمياء وبلا تمييز وتفريق بين مختلف القطاعات. المسألة أكبر من ذلك بكثير، وما الإشكالات التي سطرت من على هذا المنبر وغيره إلا دليل على وجود ثغرات خطيرة في خطط الحكومة نحو الخصخصة من جهة، وتنفيذ مقترحات ماكينزي من جهة أخرى
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 995 - الجمعة 27 مايو 2005م الموافق 18 ربيع الثاني 1426هـ