إطلاق الأحكام من دون تدبر أو تبصر، واحد من امتيازاتنا ضمن تصنيف لا أراه ظالما يتحدد في العالم الثالث. وإذا احتكمنا الى المقاييس والإنجاز، فنحن أبعد بكثير من الثالث، ونكاد نتاخم العاشر.
ثمة قضايا تحتاج إلى وقفة صدق لتناولها يمكن تلخيصها في مستويات ثلاثة: الوعي، اللغة، النتاج.
الوعي: في الذهاب الى توصيف الوعي علينا أن نقف أمام قضيتين رئيسيتين:
الأولى تتركز في تعاطينا مع قضايانا المباشرة المتعلقة بالوجود، وإنتاج ذلك الوجود.
على مستوى الوجود لا أحد يشك في أننا حاضرون في صور مادية لا تأثير يمكنها أن تحدثه سواء على مستوى الحوار، وما ينتج عن ذلك الحوار من إضافة، علاوة على الدخول في عمق النتاج الإنساني وفي مختلف فروعه ونقلاته النوعية التي تشهد تحولات وتغيرات متسارعة. في المحصلة النهائية يكاد الاستهلاك ينخر حتى رخام بيوتنا قبل عظامنا. ثمة "تواكل" ليس حديثا بمقياس تعاطينا مع الحوادث والمؤثرات التي طرأت على العالم. وبالرصد البسيط يمكننا البدء في مؤشرات سقوط واحد من قلاع وجودنا "الخلافة".
الوجود نفسه الذي نتحدث عنه، لم يفاجئنا بصور السحل والتصفيات وترتيب الأدوار حرصا على الحضور في الصف الأول، وربما قبل ذلك بكثير.
لنستعرض شيئا من تهديد صور ذلك الوجود.
ثلاثة خلفاء من أصل أربعة، تمت تصفيتهم وذلك نذير بالسطو على رمز من رموز ذلك الوجود وفي فترة زمنية متأخرة. هل انتهى الأمر عند ذلك الحد؟ لا أعتقد ذلك. فالرتم والإيقاع "التصفوي" استمر في توجهه وقناعاته، ولم تنته التصفيات بل على العكس، هي تراكمت في صور ومشاهد تبعث على براءة المرء منها، للتأكيد على أن التهديد على مستوى الوجود لم يكن نتاجا خارجيا بقدر ما كان نتاجا داخليا.
لنبدأ على المستوى القيمي والخلقي: جاء في كتاب "الإمامة والسياسة" لابن قتيبة في الجزء الثاني: "قال خالد بن عبدالله القسري وقد كان ظهره الى الكعبة قد استند اليها: والله لو علمت أن عبدالملك لا يرضى عني إلا بنقضي هذا البيت حجرا حجرا لنقضته في مرضاته". والحديث هنا عن النقض، أي الهدم... الإلغاء... المحو... المسح قبالة الوجود، الحضور، التمثل. ذلك على المستوى القيمي والخلقي.
على المستوى المباشر، ثمة أكثر من شاهد وصورة وضمن مفصل تاريخي: من وصية عبدالملك بن مروان لولده الوليد بن عبدالملك، كما جاء في "مروج الذهب" في جزئه الثالث: "وانظر الحجاج فأكرمه، فإنه هو الذي وطأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد ويدك على من ناوأك، فلا تسمعن فيه قول أحد، أنت اليه أحوج منه اليك، وادع الناس إذا مت الى البيعة، فمن قال برأسه هكذا، فقل بسيفك هكذا".
بعيدا عن التاريخ، لنرصد جانبا مما تمت معاصرته في الماضي القريب، في محاولات تسخيف وإلغاء ذلك الوجود.
"لبس الحذاء ممنوع، الخروج الى الشوارع بعد الغروب ومن دون فانوس ممنوع، التجول مساء ممنوع، التدخين ممنوع، القراءة ممنوعة، التدخل في السياسة ممنوع، بناء المستشفيات ممنوع، استعمال النظارات الطبية والشمسية ممنوع، دخول الصحف ممنوع، بناء المدارس ممنوع، استخدام التيار الكهربائي ممنوع، سماع الموسيقى ممنوع، مسك القلم خطيئة دينية، بناء منزل أو امتلاك راديو أو دراجة نارية، او شراء علبة متوسطة من السمن الحيواني أو صيد الأسماك لا يتم الا بإذن خطي". كان ذلك جزء من أحد المراسيم لأحد السلاطين في أربعينات القرن الماضي.
الثانية، تتعلق بالمرتبطين بذلك الوجود. ثبت ومنذ ألف وأربعمئة عام، أن الرعية "أشياء" أكثر منها بشر. هل نحتاج الى شواهد في هذا الصدد؟. لنبدأ على مستوى تحريف قيمة التأصيل في جانبه التشريعي:
صورة أولى
روي أن أحد الخلفاء باع مرة سقاية من ذهب بأكثر من ثمنها، فقال له الصحابي أبو الدرداء: سمعت رسول الله "ص" ينهى عن مثل ذلك، فقال الخليفة: ما أرى بهذا بأسا، فرد أبوالدرداء: من يعذرني في "...." ، أخبره عن رسول الله، ويخبرني عن رأيه، والله لا أساكنك أرضا".
ثمة صورة أخرى تؤكد تحول الإنسان الذي كرمه الله الى أدنى من شيء.
صورة ثانية
جاء في الجزء العاشر من "البداية والنهاية" لابن كثير: "أرسل ابن المقفع للخليفة المنصور كتابا صغير الحجم، عظيم القيمة أسماه "رسالة الصحابة" نصح فيه الخليفة بحسن اختيار معاونيه، وحسن سياسة الرعية، فعوقب لأنه تجرأ على النصح والإرشاد بتقطيع أطرافه قطعة قطعة، وأحمى له تنورا، وجعل يقطعه إربا إربا ويلقيه في ذلك التنور حتى حرقه كله وهو ينظر الى أطرافه كيف تقطع ثم تحرق".
صورة ثالثة
ورد في "البداية والنهاية" لابن كثير، و "مروج الذهب" للمسعودي: "وقف خالد بن عبدالله القسري، والي الكوفة يخطب على المنبر خطابا جامعا قال في نهايته: ايها الناس، اذهبوا وضحوا بضحاياكم، تقبل الله منا ومنكم، أما أنا فمضح اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول: ما كلم الله موسى تكليما، ولا اتخذ ابراهيم خليلا! تعالى الله عما يقول علوا كبيرا، ثم نزل واستل سكينا وذبحه أسفل المنبر".
ذلك على مستوى الوعي، أما على مستوى اللغة فثمة تحايل مبكر في هذا الصدد يتعلق بتحييد الوعي أو تغييبه، وتلعب اللغة دورا معقدا يمكن تلمسه في صور عدة.
صورة أولى
جاء في "تاريخ الخلفاء" للسيوطي: "قال قريش الختلي: رفع صالح بن عبدالقدوس البصري إلى المهدي في الزندقة، فأراد قتله فقال: أتوب الى الله، وأنشده لنفسه:
ما يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه
والشيخ لا يترك أخلاقه
حتى يوارى في ثرى رمسه
فصرفه، فلما قرب من الخروج رده، فقال: ألم تقل: والشيخ لا يترك أخلاقه؟ قال: بلى، قال: فكذلك أنت لا تدع أخلاقك حتى تموت، ثم أمر بقتله!
صورة ثانية
لم يجد ابن هانئ الأندلسي أي حرج في أن يقول للفاطمي المعز لدين الله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصار
وأردف في قصيدة أخرى:
ندعوه منتقما عزيزا قادرا
غفار موبقة الذنوب صفوحا
أقسمت لولا أن دعيت خليفة
لدعيت من بعد المسيح مسيحا
صورة ثالثة
لم يتردد الوليد بن عبدالملك في التساؤل كما جاء في "تاريخ الخلفاء" للسيوطي: أيمكن للخليفة أن يحاسب؟
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 995 - الجمعة 27 مايو 2005م الموافق 18 ربيع الثاني 1426هـ