شكل ظهور دولة السلاجقة خطوة في طريق استعادة التوازن بين الخلافة العباسية في بغداد والدولة الفاطمية في القاهرة. وأسهمت تلك الخطوة في نشوء نوع من تقاسم الوظائف بين الخليفة العباسي وقادة دولة السلاجقة. فالدولة الجديدة لم تخرج على مظلة الخلافة السياسية، إلا أنها لعبت دورا عسكريا في حمايتها من محاولات الحصار من الخارج أو ضربها من الداخل.
التقاسم الوظائفي بين الخلافة ودولة السلاجقة أنتج بدوره سياسات حققت بعض الاستقرار في بلاد الرافدين وجوارها من دون أن تنجح نهائيا في تهميش الدولة الفاطمية وعزلها عن المنافسة على ساحة الزعامة، أو في القضاء على تيارات التطرف وخروج مدارس شديدة التعصب في مختلف المناطق والمذاهب. فالدولة السلجوقية في طبيعتها التنظيمية دولة عسكرية تستمد قوتها من تلك المساحة السياسية الممتدة إلى عمق آسيا، ولكنها افتقدت إلى مظلة فكرية تساعدها على مد نفوذها إلى مصر وبلاد الشام.
هذه القوة العسكرية التي وظفها السلاجقة لحماية الخلافة وتأمين الاستقرار لها أسهمت في تحسين موقع الخليفة وأعطته فرصة لتطوير أدوات حكمه ونشر نفوذه في مناطق مختلفة من العراق مستخدما شوكة السلاجقة لقهر خصومه.
كان على الخليفة القائم بأمر الله مهمات كثيرة يقوم بها لترميم الخلافة بعد استنجاده بالسلاجقة وتأمين الاستقرار في بغداد. فالدولة كانت تعاني من صعوبات اقتصادية وإدارية وتتعرض لضغوط عسكرية من البيزنطيين وسياسية "تنافسية" من الفاطميين. فالأخيرة نجحت في ضم الحجاز واليمن إلى ملكها وبسطت سيطرتها على القدس ومدن الشام، وكان على الخليفة أن يستكشف قوته الجديدة من خلال تطوير عناصر الدولة الثقافية وتأسيس مدارس مضادة لمواجهة تلك التيارات العقائدية التي أطلقها الفاطميون بعد تأسيس الأزهر الشريف وإنشاء مكتبة دار الحكمة في القاهرة.
وفي ضوء التنافس لعبت المسألة الثقافية دورا مميزا في إعادة تأسيس قواعد فقهية اعتمدت سياسة بناء المدارس ونشرها في أكثر من مكان لتكوين جيل من المتعلمين يملك قدرات فكرية على درجة عالية من التخصص.
وفي هذا السياق التنافسي أسهمت حاجة الخليفة إلى لعب دور عقائدي في المواجهات السياسية - العسكرية في تشجيع الدولة السلجوقية على التخطيط لبناء شبكة من المدارس تنتج جيوشا من المتعلمين تسعف مركز الخلافة على تطوير القضاء والإدارات وتكون بمثابة قوة سياسية رديفة للقوات المسلحة.
وبسبب هذه الحاجة الايديولوجية بدأت الدولة السلجوقية تخطط لبناء تلك المدارس. وتصادف آنذاك وفاة السلطان طغر لبك وظهور فترة صاحب الشوكة ألب أرسلان في العام 455 هـ "1064م". أرسلان كان رجل دولة ويعرف أن الحكم حتى يستمر يجب أن يعتمد على العسكر من دون إفراط في استخدام القوة. فالجيش للحماية والفتوحات والقضاء على الفتن، بينما للحكم مجموعة استخدامات وواجبات أخرى لابد من تلبيتها حتى تستقيم العلاقة بين الخلافة والناس. وبسبب هذا الوعي لدور الدولة ومسئولياتها المتشعبة كلف ألب أرسلان وزيره المميز نظام الملك وضع خطط في هذا الشأن. ومنذ تلك الفترة بدأ أرسلان يعتمد على نظام الملك في إدارة شئون الدولة غير العسكرية، وهو أمر أعطى مفعوله الإيجابي وبرز تأثيره السريع في إنتاج جيل من العلماء سيلعب دوره الخاص في تشكيل قوة إيديولوجية صلبة تعتمد عليها الخلافة وقت الحاجة.
بدأ نظام الملك مهمته في تشكيل شبكة من المدارس حرص على توزيع انتشارها جغرافيا، حتى ينشأ الجيل الجديد وفق تربية موحدة ومتجانسة. فأسس مدرسة في بغداد، وأخرى في نيسابور وأيضا في بلخ. وعرفت كلها باسم المدارس النظامية نسبة إليه.
في هذا الفضاء الانتقالي من حال إلى أخرى، ولد محمد بن محمد في قرية غزالة في طوس بالقرب من مشهد في العام 450 هـ "1058 - 1059م". وشاء القدر أن يولد هذا الطفل في بيت فقير. فوالده كان يخدم في مجالس الفقهاء ويعمل أيضا في غزل الصوف. وتفترض طبيعة عمل والده التواضع والبساطة والتقشف والأمانة وأخيرا الطاعة. فهذه الوظيفة حساسة وتقتضي الكثير من التعود على الصمت وعدم التدخل في شئون المجالس وخدمة الضيوف وتلبية مطالبهم وحفظ أسرارهم. كذلك تتطلب مهنة غزل الصوف الدقة والصبر والتأني في حياكة الخيوط وحبكها حرصا على انسجامها وتماسكها. فالمهنة صعبة في معالجة خيوطها، وطبيعة العمل تفترض الكثير من التواضع والطاعة والأمانة والدماثة في الخلق واحترام العلاقات في المجالس.
لاشك في أن ظروف الطفل العائلية وفقر أسرته ومهنة والده وعلاقاته كخادم في مجالس الفقهاء تركت أثرها في حياة الغزالي "الإمام المجتهد" وسلوكه الاجتماعي وأسلوب تعاطيه مع السلطة في مرحلة لاحقة.
نشأ محمد في فضاء هذا البيت الفقير وتعلم منه الكثير، فعمل في غزل الصوف مع والده وتعلم منه الحرفة وما يتفرع عنها من علاقات وتحديدا تلك التي نسجها من خصوصية عمله في مجالس الفقهاء. فتلك الخصوصية وفرت للوالد بعض الاتصالات والمعارف التي أسعفت كثيرا محمد "وشقيقه الأكبر أحمد" حين توفي والده وهو صغير السن.
رحيل الأب وجه ضربة نفسية أليمة إلى عائلة فارسية فقيرة في خراسان. إلا أن شهامة الأب وتواضعه ودماثة خلقه، وهو رجل كان على قدر واسع من التصوف، أسعفت العائلة وأعطت فرصة للأسرة الفقيرة أن تنجو من كارثة حين تولى صديق للأب تربية أحمد ومحمد في مرحلة الطفولة. وكان صديق الأسرة من المتصوفين، وكذلك على درجة من الفقر والتقشف في الحياة. وهذا الأمر أسهم أيضا في تركيز شخصية الغزالي وتعويده على صعوبات الحياة والبساطة حين شب واشتهر وتوافر له كل ما يريد.
طفولة محمد "وشقيقه أحمد" كانت صعبة للغاية، سواء في فترة وجود الأب أو في فترة رحيله، إلا أن المصادفات كانت تلعب دائما دورها لمصلحة هذا الطفل تحضيرا له للقيام بمهمة كبرى تتعلق بما أسماه لاحقا "إحياء علوم الدين". ففي مرحلة عيشه في كنف تربية صوفية أشرف عليها صديق والده نجح الأخير في تأمين مدرسة تعنى باليتامى. فآنذاك كانت الدولة تملك أنظمة راقية في الاهتمام بمثل تلك العائلات الفقيرة والأسر اليتيمة، وكانت توفر للطالب اليتيم كل ما يتطلبه من علم وقوت وعناية. وهكذا شب محمد "وشقيقه أحمد وكان أيضا من أهل التصوف في بغداد" على الصوفية وشاب عليها. وبين هذه وتلك عرفت الديار الإسلامية من اعتبر لاحقا من قبل المؤرخين والمستشرقين، واحدا من أهم فلاسفة ومفكري التاريخ الإسلامي في مختلف عصوره
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 994 - الخميس 26 مايو 2005م الموافق 17 ربيع الثاني 1426هـ