العدد 993 - الأربعاء 25 مايو 2005م الموافق 16 ربيع الثاني 1426هـ

هل للخرفان دور في الانفتاح السياسي؟

محمد حسن العرادي comments [at] alwasatnews.com

كل من يتذكر الأجواء السياسية المحتقنة التي كانت تعيشها البلاد في نهاية حقبة التسعينات، لابد أن يتساءل عن السر الذي ساهم في نجاح الخطوات الأولى لبدء عملية المصالحة بين الحكم وحركة الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت البحرين طوال أكثر من عقد كامل من الزمان بدأ بالعريضة الشعبية وانتهى بإطلاق مشروع المصالحة الوطنية الذي دشنه جلالة الملك، مع توليه مقاليد السلطة في مطلع العام . 1999

ودون ريب فإن الشارع كان في تلك الفترة قد بلغ ذروة التوتر، فكانت البلاد تنام على أصوات اسطوانات الغاز وهي تتفجر في كل مكان وتصحو لتعد حصيلة الاعتقالات التي تشنها أجهزة الأمن مع خيوط الفجر الأولى لكل صباح، لقد كان الوضع متأزما إلى حد اليأس، ولم يكن ثمة بصيص نور في آخر النفق، فلقد كان ظلاما دامسا "خرمسا" أبدا.

في تلك الأجواء كانت كثير من الأموال والاستثمارات قد بدأت تتسرب إلى خارج البلاد، ولم يكن الأمر يتوقف على رؤوس الأموال الأجنبية فحسب، بل إن كثيرا من الاستثمارات البحرينية العائدة إلى رجال الأعمال والملاك وحملة الرساميل الكبيرة، قد بدأوا فعلا في تسييل أصولهم تمهيدا للهروب من المجهول الذي كان ينتظر البلاد.

عشرات من الموظفين ومئات من العمال كانوا يفقدون وظائفهم كل شهر، وينضمون إلى جيش العاطلين عن العمل، فيتفاقم الوضع السيئ سوءا، وتزداد خطورة الأمر خطرا، وشيئا فشيئا بدا أن البلاد صارت كسفينة توشك على الغرق بمن فيها، فأخذوا في التدافع بهدف النجاة ولم يكن أمامهم سوى أمواج البحر العاتية تنتظرهم من دون رأفة.

وأحسب أن معظم المواطنين كانوا يحبسون أنفاسهم ويعدون أيامهم ولياليهم، ولم يكن أمام كثير منهم سوى الاختيار بين مغادرة السفينة إلى البحر الهائج، أو البقاء ومحاولة إصلاح السفينة، ولأن أهل البحرين قد اعتادوا ركوب البحر وتطويعه فقد أصر كثيرون منهم على البقاء في السفينة وسعوا إلى إنقاذها لأنها بالنسبة إليهم الوطن.

وما أن هدأت العاصفة واطل ربيع الانفتاح مع مجيء عهد الملك حمد بن عيسى، حتى استبشر الجميع خيرا، عندما بدأت الأخبار تتوارد عن رغبة الملك في طي صفحة الماضي الأليم، وفتح صفحة جديدة من العلاقات المبنية على التواصل وتفهم مطالب واحتياجات الشعب، وكانت تلك لغة جديدة لم يعتدها الناس من قبل، وفي غمرة الهدوء والترقب الحذر، جاءت الأنباء عن أن هناك توجهات صادقة للبحث عن مدخل لجبر الخواطر الكسيرة، وهكذا بدأت عملية تبييض السجون من الأجساد الغضة التي ذاقت بين القضبان أقسى أنواع التعذيب والقهر.

وفي أجواء الفرح التي عمت معظم مدن وقرى البحرين، ومن دون سابق إنذار بدأ الحديث عن مساعدة تقضي بتوزيع أعداد كبيرة من الخرفان وأكياس الرز على المآتم والحسينيات في مختلف مناطق البحرين، وكادت الأمور أن تنقلب رأسا على عقب حين خرجت الشعارات على الجدران تندد بسياسة الخرفان وتطالب بالبرلمان، وهكذا وبشكل سريع خرجت علينا شعارات من قبيل "نعم للبرلمان لا للخرفان" و"نريد البرلمان ولا نريد الخرفان"، والحقيقة أن الخرفان لم يكن لهم أي علاقة بالبرلمان لا من بعيد ولا من قريب.

لقد كان توزيع الخرفان نوعا من رد التحية، فعندما توفي الأمير الراحل رحمه الله، فتحت الكثير من المآتم والحسينيات أبوابها لمجالس العزاء ترحما على روحه وطلبا له بالمغفرة والجنة، وحين أراد الملك أن يبادل المعروف بالمعروف كان أمام المستشارين أن يفتشوا عن طريقة مناسبة لذلك. في مجلس أحد المستشارين طرحت هذه المسألة على عدد محدود من الرواد، وكان من بينهم أحد السادة، ومن دون تردد أجاب: لماذا لا يقوم الملك برصد مبلغ معين يوزع على المآتم والحسينيات في البحرين بنسبة وتناسب، ردا للتحية ورسالة سلام، مستشهدا بالآية القرآنية: "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها".

لقد وقع الاقتراح بلسما على قلب المستشار، لكنه طلب من محدثه "أبو هاشم" خيارا آخر، أكثر أريحية وأسهل تنفيذا وأقل إحراجا، فما كان من السيد إلا أن اقترح تقديم عدد من الخرفان وأكياس الرز بمناسبة قرب موسم محرم، وكأن هذا الاقتراح قد ولد ومعه الآلية المناسبة لتنفيذه سريعا، إذ صدرت التوجيهات الرسمية إلى إدارة الأوقاف الجعفرية بالتنفيذ الفوري.

وهكذا كانت هذه الرسالة الصغيرة الحجم القليلة التكلفة رسالة سلام قرأها كثير من الناس قراءة صحيحة، وما لبثت الأوضاع أن أخذت في الهدوء والاستقرار شيئا فشيئا، إذ تزامن ذلك مع توجيهات صادرة من أقطاب المعارضة في الداخل والخارج تطالب الجميع بالتهدئة، وفتح الباب أمام الحكم ليفتش عن خيارات السلام الاجتماعية والمصالحة الوطنية.

لقد تذكرت هذه الحادثة ونحن نعيش هذه الأيام احتقانا جديدا، يكاد يعصف بنا ويشل حياتنا السياسية مرة أخرى، فالحبل بين المعارضة والحكم مشدود على آخره، وكل طرف متمسك برأيه حتى النفس الأخير، على رغم أن الجميع يتحدث عن التعديلات الدستورية، لكن بالطريقة التي تناسب مقاسه فقط، فالحكومة تقول إن التعديلات لن تتم إلا عن طريق البرلمان، والمعارضة تنادي بعدم الاعتراف بالبرلمان، وتقول إنه غير قادر على تقديم أي شيء.

وبين مواقف الحكومة المتعنتة ومواقف المعارضة المتزمتة تضيع فرص المصالحة الوطنية، وتضيع معها فرصة إغلاق هذا الملف المعلق من دون فائدة أبدا، والغريب أن كلا الطرفين يعرف ان هذه القضية سيتم حسمها بشكل أو بآخر، وقبل انتخابات ،2006 ذلك أن الأوضاع الدولية والمحلية كافة تدفع باتجاه هذا الحل، لكن الشعب هو من يدفع ثمن هذه المماحكات السياسية التي تدور فصولها في الوقت الضائع.

والسؤال الذي يطرح بقوة: لماذا لا تعود مجالس المستشارين إلى لعب الدور الإيجابي الذي كانت تلعبه إبان فترة الحوادث، ولماذا يعجز الحكم تحديدا عن فتح قنوات الحوار مع المعارضة ليقفل هذا الملف المكلف الباهظ الثمن، فجميعنا يعلم أن الحكومة تعرف كيف تفتح المسالك المغلقة، وهي تستطيع إن أرادت أن ترسل ممثليها أو وسطائها إلى المعارضة في أي وقت لتتوصل معهم إلى اتفاق لا يجحف أحدا.

إن الجميع يتذكر كيف استطاعت الحكومة إجراء مفاوضات مع بعض أقطاب المعارضة أثناء حوادث التسعينات داخل السجن! على رغم كثير من التحفظ على تلك الخطوة، كما يتذكر الجميع الوفود التي كانت تؤم بيت الشيخ الجمري صبح مساء أثناء فترة الاعتصام الذي نفذته لجنة المبادرة بعد أن تراجعت الحكومة عن تنفيذ الوعود التي قطعتها لها مقابل جهود التهدئة، ومن دون شك فإن الجميع يتذكر الزيارات واللقاءات التي كان يجريها الديوان الملكي على أعلى المستويات مع أقطاب المعارضة والشخصيات الوطنية والدينية المؤثرة للخروج من النفق المظلم الذي كانت تعيشه البلاد.

إن ذلك يدفعنا إلى القول إن المسئولية تقع على الحكم الذي يمتلك زمام المبادرة والمطالب قبل المعارضة بتقديم فرص التهدئة والحوار الإيجابي بهدف الوصول إلى حلول عملية تريح البلاد والعباد من ضغط هذا الجو المتوتر دائما، ذلك أن البلد بحاجة فعلية إلى الدخول في مرحلة السلم الاجتماعي، الذي ينطلق من وقف التراشق وكيل وتوجيه التهم المتبادلة بين المعارضة والحكم والموالاة، لأن الجميع في هذه البلاد قد استكفى من التضحيات التي في غير محلها، والتي تساهم في تأخيرنا عن ركب التقدم والبناء والتحضر يوما بعد يوم.

إن ذلك يدفعنا إلى طرح التساؤل عن الدور الذي يمكن أن يلعبه أصحاب القلوب الكبيرة الذين يقدمون النصائح الصادقة الهادفة إلى تحقيق المصالحة التي من شأنها المساهمة في توطين الديمقراطية والتواصل بين الحكم ومختلف فئات الشعب، حتى تصبح بلادنا كما نريدها جميعا واحة أمن وأمان، ومركزا يستقطب الاستثمارات من كل مكان.

لقد آن لنا أن نفكر جديا في فتح الباب من جديد للمبادرات الشعبية البسيطة القادرة على التعامل مع طيبة الإنسان البحريني بكل فئاته من خلال التفتيش عن خطوات صغيرة نبدأ بها استئناف عملية التواصل لحل جميع المشكلات التي تعرقل مسيرة التنمية والانفتاح السياسي في البلاد، حتى لو اقتضى الأمر تقديم بعض الخرفان قرابين لعملية التواصل وفتح قنوات الحوار للخروج من هذا المأزق

إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"

العدد 993 - الأربعاء 25 مايو 2005م الموافق 16 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً