العدد 993 - الأربعاء 25 مايو 2005م الموافق 16 ربيع الثاني 1426هـ

لا تصدقوني... أقسم أني أهذي!

المنامة - حسن الصحاف 

تحديث: 12 مايو 2017

أنا عربي. وأنا العربي هذا واقع في أزمة فكرية. ولي مشكلة كبيرة أو ربما مشكلات مع الأرض التي ولدت فيها ومن عليها. ولكي أضعكم في الصورة بشكل صحيح حتى لا تذهب عقولكم شمالا ويمنة وتتشتت أفكاركم وتذهب بكم كل مذهب، أبدأ بالقول إني لست خروفا عربيا من الخرفان العربية؛ لأن الخروف العربي مطلوب ومرغوب به في كل بقاع العالم وخصوصا في بقاع العالم العربي لحسن صوفه وعظيم أردافه وطيب لحمه وحسن صوته، فالعالم لذلك يعتنون به أشد العناية ويضعون له أحسن العلف وأجوده عند كل وجبة؛ أما أنا فعكس ذلك تماما. كما أني لست حصانا عربيا فالحصان العربي مخلوق مدلل، وكما تعلمون جميعا فهو مطلوب في كل بقاع العالم لجماله ودلاله، لرأسه الجميلة الصغيرة، لجبهته العريضة، لعيونه البراقة الواسعة الداكنة السواد، لمنخريه الواسعين، لعضلات خديه البارزة، لأذنيه المنتصبتين، لعنقه المقوس، لصدره العريض، لقوامه الرشيق، لذيله المرتفع الحريري الملمس، لسرعته ولنسله الحسن، فهم لذلك يؤجرون له أفضل من يدربه وأفضل الأطباء للعناية بصحته ويلبسونه أفخر وأجود الأسرجة وأحسن الصوف إذا ما اشتد البرد، ويعتنون بحوافره أيما عناية ويلبسونه أجود الحدوات؛ أما أنا عكس ذلك تماما. كما أني لست حمارا عربيا لأن الحمار العربي مشهور جدا بين حمير العالم أجمع لفراهته أي لجماله وطول آذانه ولحسن عمله وجده ولصبره الذي فاق به صبر أيوب، ولأشياء أخرى تميزه عن أقرانه من الحيوانات لا يحسن بي أن أذكرها هنا؛ ولست حماما عربيا وهو طبعا كما تعرفون نوع من السمك طيب ولذيذ أكله؛ ولست تيسا عربيا طويل اللحية مكشوف الالية، لأنه تيس مرغوب به ومطلوب لدى أمم كثيرة. ولست ثورا عربيا، ولذلك فإن الثور لا داعي أن أحدثكم عنه فو الله لو حدثتكم عنه لسقط معظمكم مغشيا عليه من فرط الحزن لما له من موقع في نفوس بني العالم ولما له من قدسية عند بعض الأمم، كما لا يفوتني أن أقول لكم إن مصارعة الثيران المشهورة مصدرها البلاد العربية ومازال ثيرانها يتصارعون وقد صدرت إلى أمم أخرى كما صدر غيرها من أمور حميدة وغير حميدة؛ أما البقرة آه من البقرة فهي - أي البقرة العربية - لها موقع مميز في تاريخنا وتاريخ العالم وقد أضحت إلها من الآلهة المعتبرين عندنا وعند أقوام أخرى، فالبقرة العربية طيبة القلب حليمة، لها ذاكرة قوية ولا تعطي حليبها للغرباء؛ بكل صراحة أقول لكم بأني لست حيوانا عربيا أيأ كان نوعه أو شكله، لست حيوانا محبوبا بين الناس، أنا بكل بساطة إنسان عربي. عربي اللسان. قوي البيان. مغوار. لا يمكن لأحد لديه من البصيرة أقل القليل أن ينكر ذلك. تعلمت وجهدت في تعليمي أيما جهد وصرفت من حياتي وقتا لارتقاء سلم الإنسانية الكبير ولن أتحدث عن المال الذي صرف من أجل ذلك: مال العائلة ومال الدولة ومالي الخاص. تعلمت وتميزت بين كثير من البشر من أمثالي ولا داعي أن أعدد لكم قومياتهم أو لغة لسانهم فأنا أعرف انكم على قدر كبير من العلم و المعرفة حتى وإن لم تبارحوا أوطانكم فقد خبرتم الاستعمار وطردتموه وحاربتموه وأنتصر كثير منكم عليه وقدمتم التضحيات الجسام لذلك. مع ذلك فأنا لست حرا كما الحمار ولست حرا كما الحصان ولست حرا كما الثور ولست حرا كما البقر ولست حرا كما التيوس ولا الخرفان. جاهدت لنيل حريتي غير اني حتى كتابة هذه السطور لم أحصل عليها كما حصل عليها جميع الحيوانات وأمم أخرى من البشر.

القصة بدأت حينما كنت أغط في نوم عميق والساعة بدت لي عندما استيقظت فجأة على صراخ وعويل عند الباب الخارجي لدارنا الواقعة في زقاق من أزقة المدينة والذي قد سقط وانكسرت وتناثرت أخشابه على مساحة دهليزنا الضيق الصغير بعد منتصف الليل بساعات ثلاث. في تلك الساعات لم أر وجوها بل أحذية سوداء وملابس رسمية من نوع غريب: خضراء. كان جمع من رجال الشرطة قد داهموا المنزل تلك الساعة التي ينتشر فيها الظلام ويعيث في الطرقات الظلام. كنت في غرفتي العلوية التي تطل على حوش الدار الرملي والمتناثرة فيه أصايص المزروعات المحلية أبصر مداهمتهم. دخلوا في البداية غرفة والدتي العجوز بأحذيتهم القذرة ودنسوا موقع صلاتها ثم سمعتها تصرخ وتستنجد بالله الذي كانت تتجهز لعبادته وسألتهم صارخة: "عن ماذا تبحثون، إذا كنتم تبحثون عنه فإنه فوق" ولم تزد على ذلك وسقطت أرضا مغشيا عليها؛ لم يعبأ أحدهم بصراخها وبدعائها لله أن يخلصها منهم ولا بسقوطها أرضا. واصلوا نبش خزانة ملابسها ورفعوا الأغطية عن فراشها ورموا بها في الحوش إذ تلاقفتها الأغنام وراحت تجترها. ثم إنهم بعثروا كل ما طالته يدهم على طول الحجرة وعرضها وكادت أيديهم تمتد إليها وهي جثة لاحراك فيها ملقية أرضا لولا لطف الله لعروها تماما من ملابسها وفتشوا أماكن محرمة من جسدها وهي على تلك الحال. حال ما انتهوا منها توجهوا إلى الغرف التالية وفعلوا بها أكثر مما فعلوا بوالدتي وبغرفتها، طبعا كانت هناك أختي الصغيرة التي روعوها وهي إلى غاية اليوم في غيبوبة عجز الطب عن إخراجها منها. أما أخواتي الكبيرات فإحداهن أصابها الجنون فهي منذ تلك الليلة حتى هذه الساعة تنشر شعرها الذي أصابه البياض على كل جسدها وتجلس تحت ضوء الشمس في أشد أوقات حرارتها وفي أحيان كثيرة كانت تنهش جسدها عضا حتى تدمي نفسها إذا لم يكن أحد حاضرا معها في البيت. أختي الأخرى كانت أصلب عودا في تلك الليلة وهي تقضي حكما بالسجن مدى الحياة لأنها انقضت على رقبة أحد أعضاء البوليس السري وقضمت أذنه ومزقت سترته حتى بانت كرشه المترهلة. أخي الصغير ظل ساكنا في مكانه يشاهد المأساة ويصرخ: "اتركوا أمي". كان بإمكاني النزول إلى الأسفل ولكن ولخبرتي السابقة مع هؤلاء حبست انفاسي وبقيت حيث أنا حتى جاءوا وفعلوا بي كما تفعل الحيوانات بفريستها واقتادوني وعيناي معصبتان بقطعة من القماش الأسود ذي الرائحة العفنة لا أدري إلى أين حتى وجدت نفسي بين مجموعة من العرب مروا بالتجربة نفسها وربما أكثر. كنا ونحن هناك لا نعرف من أين تأتينا الضربات فقد كانوا طوال إقامتنا يضربوننا من الخلف لأن هؤلاء الحمقى لا يملكون الجرأة على مواجهتنا وجها لوجه وضربنا. الآن أنا في غرفتي التي أخذوني منها بعد سنوات طويلة. أمي ماتت. أختي التي أخبروني قصتها في ملجأ لضعاف العقول. أخي الصغير هرب من البلاد ولا أحد يعرف عنه شيئا. أتمعن في الأشياء التي تركتها ورائي ولا أجد فيها شيئا يستحق الحفاظ عليه. كثيرا ما تساءلت لم يحصل كل هذا ولم حصل في الأساس. لا أجد إجابة على ذلك يقبل بها الناس. وأخالني صادقا هنا فقط إذا ما قلت أن لا أحد يمتلك إجابة على ذلك. لم الحيوان العربي أثمن من الإنسان العربي في كل مكان وعند جميع الأمم سؤال أرقني كثيرا.

لا أعرف لم كتبت كل هذا فإن شيئا من هذا لم يحدث قط. فانا أقسم لكم بأني في حال هذيان في هذه الساعة بالذات لا يعرف له سبب. أرجو أن لا تصدقوا ما جاء في هذا الحديث ولا تصدقوا أن الإنسان العربي يمر بمثل هكذا تجربة. فالحيوانات وإن كانت عربية تبقى هي حيوانات في النهاية وإن كانت هي مفضلة فإن أغلبها يؤخذ إلى المسلخ وتقطع أوردته ثم تسلخ عنه جلدته ثم تقطع أوصاله ثم تباع ثم تؤكل. أما الإنسان العربي فإن الحال تختلف جدا معه ولا حاجة بي أن أخبركم ابدا عن تلك الحال لكونكم عربا وتعرفونها جيدا.

فقط كل ما أرجوه منكم أن لا تصدقوني فأقسم لكم أني أهذي وصدقوا أنفسكم "إذا كنتم عربا كما تزعمون"





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً